فصل: تفسير الآيات رقم (109- 114)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الوجيز في تفسير الكتاب العزيز ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏21- 23‏]‏

‏{‏وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ قَالُوا لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ ‏(‏21‏)‏ وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏(‏22‏)‏ وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ ‏(‏23‏)‏‏}‏

‏{‏وبرزوا لله جميعاً‏}‏ خرجوا من قبورهم إلى المحشر ‏{‏فقال الضعفاء‏}‏ وهم الأتباع لأكابرهم الذين ‏{‏استكبروا‏}‏ عن عبادة الله‏:‏ ‏{‏إنَّا كنَّا‏}‏ في الدُّنيا ‏{‏لكم تبعاً فهل أنتم مغنون‏}‏ دافعون ‏{‏عنا من عذاب الله من شيء قالوا لو هدانا الله لهديناكم‏}‏ أَيْ‏:‏ إنَّما دعوناكم إلى الضَّلال لأنَّا كنَّا عليه، ولو أرشدنا الله لأرشدناكم‏.‏

‏{‏وقال الشيطان‏}‏ يعني‏:‏ إبليس ‏{‏لما قضي الأمر‏}‏ فصار أهل الجنَّة في الجنَّة، وأهل النَّار في النَّار، وذلك أنَّ أهل النَّار حينئذٍ يجتمعون باللائمة على إبليس، فيقوم خطيباً ويقول‏:‏ ‏{‏إنَّ الله وعدكم وعد الحق‏}‏ يعني‏:‏ كون هذا اليوم، فصدقكم وعده ‏{‏ووعدتكم‏}‏ أنَّه غير كائنٍ ‏{‏فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان‏}‏ أَيْ‏:‏ ما أظهرت لكم حجَّةً على ما وعدتكم ‏{‏إلاَّ أن دعوتكم‏}‏ لكن دعوتكم ‏{‏فاستجبتم لي‏}‏ فصدَّقتموني ‏{‏فلا تلوموني ولوموا أنفسكم‏}‏ حيث أجبتموني من غير برهانٍ ‏{‏ما أنا بمصرخكم‏}‏ بمغيثكم ‏{‏وما أنتم بمصرخي إني كفرتُ بما أَشْرَكْتُمونِ من قبل‏}‏ بإشراككم إيَّاي مع الله سبحانه في الطَّاعة، إنَّي جحدت أن أكون شريكاً لله فيما أشركتموني ‏{‏إنَّ الظالمين‏}‏ يريد‏:‏ المشركين‏.‏ وقوله‏:‏

‏{‏تحيتهم فيها سلام‏}‏ يحييهم الله سبحانه بالسَّلام، ويحيي بعضهم بعضاً بالسَّلام‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏24- 31‏]‏

‏{‏أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ ‏(‏24‏)‏ تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ‏(‏25‏)‏ وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ ‏(‏26‏)‏ يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ ‏(‏27‏)‏ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ ‏(‏28‏)‏ جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ ‏(‏29‏)‏ وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ ‏(‏30‏)‏ قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آَمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خِلَالٌ ‏(‏31‏)‏‏}‏

‏{‏ألم تر كيف ضرب الله مثلاً‏}‏ بيَّن شبهاً، ثمَّ فسَّره فقال‏:‏ ‏{‏كلمة طيبة‏}‏ يريد‏:‏ لا إله إلاَّ الله ‏{‏كشجرة طيبة‏}‏ يعني‏:‏ النَّخلة ‏{‏أصلها‏}‏ أصل هذه الشَّجرة الطَّيِّبة ‏{‏ثابت‏}‏ في الأرض ‏{‏وفرعها‏}‏ أعلاها عالٍ ‏{‏في السماء‏}‏‏.‏

‏{‏تؤتي‏}‏ هذه الشَّجرة ‏{‏أكلها‏}‏ ثمرها ‏{‏كلَّ حين‏}‏ كلَّ وقتٍ في جميع السَّنة، ستة أشهرٍ طلعٌ رخص، وستة أشهرٍ رطبٌ طيِّبٌ، فالانتفاع بالنَّخلة دائمٌ في جميع السَّنة‏.‏ كذلك الإِيمان ثابتٌ في قلب المؤمن، وعمله، وقوله، وتسبيحه عالٍ مرتفع إلى السَّماء ارتفاع فروع النَّخلة، وما يكتسبه من بركة الإِيمان وثوابه كما ينال من ثمرة النَّخلة في أوقات السَّنة كُلِّها من الرُّطَب والبسر والتَّمر ‏{‏ويضرب الله الأمثال للناس‏}‏ يريد‏:‏ أهل مكَّة ‏{‏لعلَّهم يتذكرون‏}‏ لكي يتَّعظوا‏.‏

‏{‏ومثل كلمة خبيثة‏}‏ يعني‏:‏ الشِّرك بالله سبحانه ‏{‏ك‏}‏ مثل ‏{‏شجرة خبيثة‏}‏ وهي الكشوث ‏{‏اجتثت‏}‏ انتزعت واستؤصلت، والكشوت كذلك ‏{‏من فوق الأرض‏}‏ لم يرسخ فيها، ولم يضرب فيها بعرق‏.‏ ‏{‏ما لها من قرار‏}‏ مستقرٌّ في الأرض‏.‏ يريد‏:‏ إنَّ الشَّرك لا ينتفع به صاحبه وليس له حجَّةٌ ولا ثباتٌ كهذه الشَّجرة‏.‏

‏{‏يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت‏}‏ وهو قول لا إله إِلاَّ الله ‏{‏في الحياة الدنيا‏}‏ على الحقَّ ‏{‏وفي الآخرة‏}‏ يعني‏:‏ في القبر يُلقِّنهم كلمة الحقِّ عند سؤال الملكين ‏{‏ويضل الله الظالمين‏}‏ لا يُلقِّن المشركين ذلك، حتى إذا سُئلوا في قبورهم قالوا‏:‏ لا ندري ‏{‏ويفعل الله ما يشاء‏}‏ من تلقين المؤمنين الصَّواب وإضلال الكافرين‏.‏

‏{‏ألم تر إلى الذين بدَّلوا نعمة الله كفراً‏}‏ بدَّلوا ما أنعم الله سبحانه عليهم به من الإِيمان ببعث الرسول صلى الله عليه وسلم كفراً حيث كفروا به ‏{‏وأحلوا قومهم‏}‏ الذين اتَّبعوهم ‏{‏دار البوار‏}‏ الهلاك، ثمَّ فسَّرها فقال‏:‏

‏{‏جهنم يصلونها وبئس القرار‏}‏ أَي‏:‏ المقرُّ‏.‏

‏{‏وجعلوا لله أنداداً‏}‏ يعني‏:‏ الأصنام ‏{‏ليضلوا عن سبيله‏}‏ النَّاس عن دين الله ‏{‏قل تمتعوا‏}‏ بدنياكم ‏{‏فإنَّ مصيركم إلى النار‏}‏ وقوله‏:‏

‏{‏لا بيع فيه‏}‏ لا فداء فيه ‏{‏ولا خلال‏}‏ مخالة‏.‏ يعني‏:‏ يوم القيامة، وهو يوم لا بيعٌ فيه، ولا شراءٌ، ولا مُخالَّةٌ، ولا قرابةٌ، إنَّما هي أعمالٌ يُثاب بها قومٌ، ويعاقب عليها آخرون‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏33‏]‏

‏{‏وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ ‏(‏33‏)‏‏}‏

‏{‏وسخر لكم الشمس والقمر‏}‏ ذلَّلهما لما يُراد منهما ‏{‏دائبين‏}‏ مقيمين على طاعة الله سبحانه وتعالى في الجري ‏{‏وسخر لكم الليل‏}‏ لتسكنوا فيه ‏{‏والنهار‏}‏ لتبتغوا من فضله ومعنى ‏"‏ لكم ‏"‏ في هذه الآية لأجلكم، ليس أنَّها مسخَّرة لنا، هي مسخَّرةٌ لله سبحانه لأجلنا ‏[‏ويجوز أنَّها مسخَّرة لنا لانتفاعنا بها على الوجه الذي نريد‏]‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏34- 37‏]‏

‏{‏وَآَتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ ‏(‏34‏)‏ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آَمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ ‏(‏35‏)‏ رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏36‏)‏ رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ ‏(‏37‏)‏‏}‏

‏{‏وإن تعدوا نعمة الله‏}‏ إنعام الله عليكم ‏{‏لا تحصوها‏}‏ لا تطيقوا عدَّها ‏{‏إن الإنسان‏}‏ يعني‏:‏ الكافر ‏{‏لظلوم‏}‏ لنفسه ‏{‏كفَّار‏}‏ نعمة ربِّه‏.‏ وقوله‏:‏

‏{‏واجنبني‏}‏ أَيْ‏:‏ بعِّدني واجعلني من على جانبٍ بعيدٍ‏.‏

‏{‏ربِّ إنهن أضللن كثيراً من الناس‏}‏ أَيْ‏:‏ ضلُّوا بسببها ‏{‏فمن تبعني‏}‏ على ديني ‏{‏فإنه مني‏}‏ من المتدينين بديني ‏{‏ومن عصاني‏}‏ فيما دون الشِّرك ‏{‏فإنك غفور رحيم‏}‏‏.‏

‏{‏ربنا إني أسكنت من ذريتي‏}‏ يعني‏:‏ إسماعيل عليه السَّلام ‏{‏بوادٍ غير ذي زرعٍ‏}‏ مكَّة حرسها الله ‏{‏عند بيتك المحرَّم‏}‏ الذي مضى في علمك أنَّه يحدث في هذا الوادي ‏{‏ربنا ليقيموا الصلاة‏}‏ ليعبدوك ‏{‏فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم‏}‏ تريدهم وتحنُّ إليهم لزيارة بيتك ‏{‏وارزقهم من الثمرات‏}‏ ذُكر تفسيره في سورة البقرة ‏{‏لعلَّهم يشكرون‏}‏ كي يُوحِّدوك ويُعظِّموك‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏39- 44‏]‏

‏{‏الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ ‏(‏39‏)‏ رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ ‏(‏40‏)‏ رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ ‏(‏41‏)‏ وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ ‏(‏42‏)‏ مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ ‏(‏43‏)‏ وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ ‏(‏44‏)‏‏}‏

‏{‏الحمد لله الذي وهب لي‏}‏ أعطاني ‏{‏على الكبر إسماعيل‏}‏ لأنَّه وُلد له وهو ابن تسع وتسعين ‏{‏وإسحاق‏}‏ وُلد له وهو ابن مائة سنة واثنتي عشرة سنة‏.‏ وقوله‏:‏

‏{‏ومن ذريتي‏}‏ أَيْ‏:‏ واجعل منهم مَنْ يقيم الصَّلاة، وقوله‏:‏

‏{‏ولوالدي‏}‏ استغفر لهما بشرط الإِيمان‏.‏

‏{‏ولا تحسبن الله غافلاً عمَّا يعمل الظالمون‏}‏ يريد‏:‏ المشركين من أهل مكَّة ‏{‏إنما يؤخرهم‏}‏ فلا يعاقبهم في الدُّنيا ‏{‏ليوم تشخص‏}‏ تذهب فيه أبصار الخلائق إلى الهواء حيرةً ودهشةً‏.‏

‏{‏مهطعين‏}‏ مسرعين منطلقين إلى الداعي ‏{‏مقنعي‏}‏ رافعي ‏{‏رؤوسهم‏}‏ إلى السماء لا ينظر أحدٌ إلى أحدٍ ‏{‏لا يرتدُّ إليهم طرفهم‏}‏ لا ترجع إليهم أبصارهم من شدَّة النَّظر فهي شاخصةٌ ‏{‏وأفئدتهم هواء‏}‏ وقلوبهم خاليةٌ عن العقول بما ذهلوا من الفزع‏.‏ وقوله‏:‏

‏{‏فيقول الذين ظلموا‏}‏ أَيْ‏:‏ أشركوا ‏{‏ربنا أخرنا إلى أجل قريب‏}‏ استمهلوا مدَّةً يسيرةً كي يجيبوا الدَّعوة، فيقال لهم‏:‏ ‏{‏أَوَلَمْ تكونوا أقسمتم من قبل ما لكم من زوال‏}‏ حلفتم في الدُّنيا أنَّكم لا تُبعثون ولا تنتقلون إلى الآخرة، وهو قوله‏:‏ ‏{‏وأقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏45- 52‏]‏

‏{‏وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ ‏(‏45‏)‏ وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ ‏(‏46‏)‏ فَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ ‏(‏47‏)‏ يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ ‏(‏48‏)‏ وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ ‏(‏49‏)‏ سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ ‏(‏50‏)‏ لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ‏(‏51‏)‏ هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ ‏(‏52‏)‏‏}‏

‏{‏وسكنتم‏}‏ في الدُّنيا ‏{‏في مساكن الذين ظلموا أنفسهم‏}‏ يعني‏:‏ الأمم الكافرة ‏{‏وتبيَّن لكم كيف فعلنا بهم‏}‏ فلم تنزجروا ‏{‏وضربنا لكم الأمثال‏}‏ في القرآن فلم تعتبروا‏.‏

‏{‏وقد مكروا مكرهم‏}‏ يعني‏:‏ مكرهم بالنبيِّ صلى الله عليه وسلم وما همُّوا به من قتله أو نفيه ‏{‏وعند الله مكرهم‏}‏ هو عالمٌ به لا يخفى عليه ما فعلوا، فهو يجازيهم عليه ‏{‏وإن كان‏}‏ وما كان ‏{‏مكرهم لتزول منه الجبال‏}‏ يعني‏:‏ أمر النبيِّ صلى الله عليه وسلم، أَيْ‏:‏ ما كان مكرهم ليبطل أمراً هو في ثبوته وقوَّته كالجبال‏.‏

‏{‏فلا تحسبن الله‏}‏ يا محمد ‏{‏مخلف وعده رسله‏}‏ ما وعدهم من الفتح والنَّصر ‏{‏إنَّ الله عزيز‏}‏ منيع ‏{‏ذو انتقام‏}‏ من الكفَّار يجازيهم بما كان من سيئاتهم‏.‏

‏{‏يوم تبدل الأرض غير الأرض والسموات‏}‏ تُبدَّل الأرض بأرضٍ كالفضَّة بيضاء نقيَّة يُحشر النَّاس عليها، والسَّماء من ذهبٍ ‏{‏وبرزوا‏}‏ وخرجوا من القبور، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وبرزوا لله جميعاً‏}‏‏.‏

‏{‏وترى المجرمين‏}‏ الذين زعموا أنَّ لله شريكاً وولداً يوم القيامة ‏{‏مقرنين‏}‏ موصولين بشياطينهم‏.‏ كلُّ كافرٍ مع شيطانٍ في غلٍّ، والأصفاد‏:‏ سلاسل الحديد والأغلال‏.‏

‏{‏سرابيلهم‏}‏ قُمصهم ‏{‏من قطران‏}‏ وهو الهِناء الذي يُطلى به الإِبل، وذلك أبلغ لاشتعال النَّار فيهم ‏{‏وتغشى وجوههم‏}‏ وتعلو وجوههم ‏{‏النار‏}‏‏.‏

‏{‏ليجزي الله كلَّ نفس‏}‏ من الكفَّار ‏{‏ما كسبت‏}‏ أَيْ‏:‏ ليقع لهم الجزاء من الله سبحانه بما كسبوا‏.‏

‏{‏هذا‏}‏ القرآن ‏{‏بلاغ للناس‏}‏ أَيْ‏:‏ أنزلناه إليك لتبلِّغهم ‏{‏ولينذروا به‏}‏ ولتنذرهم أنت يا محمد ‏{‏وليعلموا‏}‏ بما ذُكر فيه من الحجج ‏{‏أنما هو إله واحدٌ وليذكر‏}‏ وليتَّعظ ‏{‏أولوا الألباب‏}‏ أهل اللُّبِّ والعقل والبصائر‏.‏

سورة الحجر

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 4‏]‏

‏{‏الر تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآَنٍ مُبِينٍ ‏(‏1‏)‏ رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ ‏(‏2‏)‏ ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ‏(‏3‏)‏ وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ ‏(‏4‏)‏‏}‏

‏{‏الر‏}‏ أنا الله أرى ‏{‏تلك آيات‏}‏ هذه آيات ‏{‏الكتاب‏}‏ الذي هو قرآن مبين للأحكام‏.‏

‏{‏ربما يودُّ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏.‏ نزلت في تمنِّي الكفَّار الإِسلام عند خروج مَنْ يخرج من النَّار‏.‏

‏{‏ذرهم يأكلوا ويتمتعوا‏}‏ يقول‏:‏ دع الكفَّار يأخذوا حظوظهم من دنياهم ‏{‏ويلههم الأمل‏}‏ يشغلهم الأمل عن الأخذ بحظِّهم من الإِيمان والطَّاعة ‏{‏فسوف يعلمون‏}‏ إذا وردوا القيامة وبال ما صنعوا‏.‏

‏{‏وما أهلكنا من قرية‏}‏ يعني‏:‏ أهلها ‏{‏إلاَّ ولها كتابٌ معلوم‏}‏ أجلٌ ينتهون إليه‏.‏ يعني‏:‏ إنَّ لأهل كلِّ قرية أجلاً مؤقَّتاً لا يُهلكهم حتى يبلغوه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏5- 14‏]‏

‏{‏مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ ‏(‏5‏)‏ وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ ‏(‏6‏)‏ لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ‏(‏7‏)‏ مَا نُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذًا مُنْظَرِينَ ‏(‏8‏)‏ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ‏(‏9‏)‏ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ ‏(‏10‏)‏ وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ‏(‏11‏)‏ كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ ‏(‏12‏)‏ لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ ‏(‏13‏)‏ وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ ‏(‏14‏)‏‏}‏

‏{‏ما تسبق من أمة أجلها‏}‏ أيْ‏:‏ ما تتقدَّم الوقت الذي وُقَّت لها ‏{‏وما يستأخرون‏}‏ لا يتأخَّرون عنه‏.‏

‏{‏وقالوا يا أيُّها الذي نُزِّل عليه الذكر‏}‏ أَي‏:‏ القرآن‏.‏ قالوا هذا استهزاءً‏.‏

‏{‏لو ما‏}‏ هلا ‏{‏تأتينا بالملائكة إن كنت من الصادقين‏}‏ أنَّك نبيٌّ، فقال الله عزَّ وجلَّ‏:‏

‏{‏ما ننزل الملائكة إلاَّ بالحق‏}‏ أَيْ‏:‏ بالعذاب ‏{‏وما كانوا إذاً منظرين‏}‏ أَيْ‏:‏ لو نزلت الملائكة لم يُنظروا ولم يُمهلوا‏.‏

‏{‏إنا نحن نزلنا الذِّكر‏}‏ القرآن ‏{‏وإنا له لحافظون‏}‏ من أن يُزاد فيه أو يُنقص‏.‏

‏{‏ولقد أرسلنا من قبلك‏}‏ أَيْ‏:‏ رسلاً ‏{‏في شيع الأوَّلين‏}‏ أَيْ‏:‏ فِرَقِهم‏.‏

‏{‏وما يأتيهم من رسول إلاَّ كانوا به يستهزئون‏}‏ تعزيةٌ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم‏.‏

‏{‏كذلك‏}‏ أَيْ‏:‏ كما فعلوا ‏{‏نسلكه‏}‏ ندخل الاستهزاء والشِّرك والضَّلال ‏{‏في قلوب المجرمين‏}‏ ثمَّ بيَّن أَيَّ شيء الذي أدخل في قلوبهم، فقال‏:‏

‏{‏لا يؤمنون به‏}‏ أَيْ‏:‏ بالرَّسول ‏{‏وقد خلت‏}‏ مضت ‏{‏سنَّة الأولين‏}‏ بتكذيب الرُّسل، فهؤلاء المشركون يقتفون آثارهم في الكفر‏.‏

‏{‏ولو فتحنا عليهم‏}‏ على هؤلاء المشركين ‏{‏باباً من السماء فظلوا فيه يعرجون‏}‏ فطفقوا فيه يصعدون لجحدوا ذلك وقالوا‏:‏ ‏{‏إنما سكِّرت أبصارنا‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏15- 21‏]‏

‏{‏لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ ‏(‏15‏)‏ وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ ‏(‏16‏)‏ وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ ‏(‏17‏)‏ إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ ‏(‏18‏)‏ وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ ‏(‏19‏)‏ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ ‏(‏20‏)‏ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ ‏(‏21‏)‏‏}‏

‏{‏إنما سكِّرت أبصارنا‏}‏ أَيْ‏:‏ سُدَّت بالسِّحر، فتتخايل لأبصارنا غير ما نرى ‏{‏بل نحن قوم مسحورون‏}‏ سحرنا محمد- صلى الله عليه وسلم- فلا نبصر‏.‏

‏{‏ولقد جعلنا في السماء بروجاً‏}‏ يعني‏:‏ منازل الشَّمس والقمر ‏{‏وزيناها‏}‏ بالنُّجوم للمعتبرين والمستدلِّين على توحيد صانعها‏.‏

‏{‏وحفظناها من كلّ شيطان رجيم‏}‏ مرميٍّ بالنُّجوم‏.‏

‏{‏إلاَّ من استرق السمع‏}‏ يعني‏:‏ الخطفة اليسيرة ‏{‏فأتبعه‏}‏ لحقه ‏{‏شهاب‏}‏ نارٌ ‏{‏مبين‏}‏ ظاهرٌ لأهل الأرض‏.‏

‏{‏والأرض مددناها‏}‏ بسطناها على وجه الماء ‏{‏وألقينا فيها رواسي‏}‏ جبالاً ثوابت لئلا تتحرَّك بأهلها ‏{‏وأنبتنا فيها‏}‏ في الجبال ‏{‏من كلِّ شيء موزون‏}‏ كالذَّهب والفضَّة والجواهر‏.‏

‏{‏وجعلنا لكم فيها معايش‏}‏ من الثِّمار والحبوب ‏{‏ومَنْ لستم له برازقين‏}‏ العبيد والدَّوابَّ والأنعام، تقديره‏:‏ وجعلنا لكم فيها معايش وعبيداً وإماءً ودوابَّ نرزقهم ولا ترزقونهم‏.‏

‏{‏وإن من شيء‏}‏ يعني‏:‏ من المطر ‏{‏إلاَّ عندنا خزائنه‏}‏ أَيْ‏:‏ في حكمنا وأمرنا ‏{‏وما ننزله إلاَّ بقدر معلوم‏}‏ لا ننقصه ولا نزيده، غير أنَّه يصرفه إلى مَنْ يشاء، حيث شاء، كما شاء‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏22- 24‏]‏

‏{‏وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ ‏(‏22‏)‏ وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ ‏(‏23‏)‏ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ ‏(‏24‏)‏‏}‏

‏{‏وأرسلنا الرياح لواقح‏}‏ السَّحاب تَمُجُّ الماء فيه، فهي لواقح، بمعنى‏:‏ ملقحاتٌ‏.‏ وقيل‏:‏ لواقح‏:‏ حوامل؛ لأنَّها تحملُ الماء والتُّراب والسَّحاب ‏{‏فأسقيناكموه‏}‏ جعلناه سقياً لكم ‏{‏وما أنتم له‏}‏ لذلك الماء المنزل من السَّماء ‏{‏بخازنين‏}‏ بحافظين، أَيْ‏:‏ ليست خزائنه بأيديكم‏.‏

‏{‏وإنا لنحن نحيي ونميت ونحن الوارثون‏}‏ إذا مات جميع الخلائق‏.‏

‏{‏ولقد علمنا المستقدمين‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏.‏ حضَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم على الصَّف الأوَّل في الصَّلاة، فازدحم النَّاس عليه، فأنزل الله سبحانه هذه الآية‏.‏ يقول‏:‏ قد علمنا جميعهم، وإنَّما نجزيهم على نيَّاتهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏26- 27‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ ‏(‏26‏)‏ وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ ‏(‏27‏)‏‏}‏

‏{‏ولقد خلقنا الإنسان‏}‏ آدم ‏{‏من صلصال‏}‏ طينٍ منتنٍ ‏{‏من حمأ‏}‏ طينٍ أسود ‏{‏مسنون‏}‏ متغيِّر الرَّائحة‏.‏

‏{‏والجانَّ‏}‏ أبا الجنِّ ‏{‏خلقناه من قبل‏}‏ خَلْقِ آدم ‏{‏من نار السموم‏}‏ وهي نارٌ لا دخان لها‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏29‏]‏

‏{‏فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ ‏(‏29‏)‏‏}‏

‏{‏فإذا سويته‏}‏ عدَّلت صورته ‏{‏ونفخت فيه‏}‏ وأجريت فيه ‏{‏من روحي‏}‏ المخلوقة لي ‏{‏فقعوا‏}‏ فخرُّوا ‏{‏له ساجدين‏}‏ سجود تحيَّةٍ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏35‏]‏

‏{‏وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ ‏(‏35‏)‏‏}‏

‏{‏وإنَّ عليك اللعنة‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏.‏ يقول‏:‏ يلعنك أهل السَّماء وأهل الأرض إلى يوم الجزاء، فتحصل حينئذٍ من عذاب النَّار‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏38- 45‏]‏

‏{‏إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ ‏(‏38‏)‏ قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ‏(‏39‏)‏ إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ‏(‏40‏)‏ قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ ‏(‏41‏)‏ إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ ‏(‏42‏)‏ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ ‏(‏43‏)‏ لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ ‏(‏44‏)‏ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ‏(‏45‏)‏‏}‏

‏{‏إلى يوم الوقت المعلوم‏}‏ يعني‏:‏ النَّفخة الأولى حين يموت الخلائق‏.‏

‏{‏قال رب بما أغويتني‏}‏ أَيْ‏:‏ بسبب إغوائك إيَّاي ‏{‏لأُزَيِّنَنَّ لهم‏}‏ لأولاد آدم الباطل حتى يقعوا فيه‏.‏

‏{‏إلاَّ عبادك منهم المخلصين‏}‏ أَيْ‏:‏ المُوحِّدين المؤمنين الذي أخلصوا دينهم عن الشِّرك‏.‏

‏{‏قال هذا صراط عليّ‏}‏ هذا طريق عليَّ ‏{‏مستقيم‏}‏ مرجعه إليَّ، فأجازي كلاً بأعمالهم‏.‏ يعني‏:‏ طريق العبوديَّة‏.‏

‏{‏إنَّ عبادي‏}‏ يعني‏:‏ الذين هداهم واجتباهم ‏{‏ليس لك عليهم سلطانٌ‏}‏ قوَّةٌ وحجَّةٌ في إغوائهم، ودعائهم إلى الشِّرك والضَّلال‏.‏

‏{‏وإنًّ جهنم لموعدهم أجمعين‏}‏ يريد‏:‏ إبليس ومَنْ تبعه من الغاوين‏.‏

‏{‏لها‏}‏ لجهنم ‏{‏سبعة أبواب‏}‏ سبعة أطباقٍ، طبقٌ فوق طبقٍ ‏{‏لكلِّ باب منهم‏}‏ من أتباع إبليس ‏{‏جزء مقسوم‏}‏‏.‏

‏{‏إنَّ المتقين‏}‏ للفواحش والكبائر ‏{‏في جنات وعيون‏}‏ يعين‏:‏ عيون الماء والخمر‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏46- 56‏]‏

‏{‏ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آَمِنِينَ ‏(‏46‏)‏ وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ ‏(‏47‏)‏ لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ ‏(‏48‏)‏ نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ‏(‏49‏)‏ وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ ‏(‏50‏)‏ وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ ‏(‏51‏)‏ إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ ‏(‏52‏)‏ قَالُوا لَا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ ‏(‏53‏)‏ قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ ‏(‏54‏)‏ قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ ‏(‏55‏)‏ قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ ‏(‏56‏)‏‏}‏

‏{‏ادخلوها بسلامٍ‏}‏ بسلامةٍ ‏{‏آمنين‏}‏ من سخط الله سبحانه وعذابه‏.‏

‏{‏ونزعنا ما في صدورهم من غلٍّ‏}‏ ذكرناه في سورة الأعراف ‏{‏إخواناً‏}‏ متآخين ‏{‏على سرر‏}‏ جمع سرير ‏{‏متقابلين‏}‏ لا يرى بعضهم قفا بعض‏.‏

‏{‏لا يمسهم‏}‏ لا يصيبهم ‏{‏فيها نصب‏}‏ إعياءٌ‏.‏

‏{‏نبئ عبادي‏}‏ أخبر أوليائي ‏{‏أني أنا الغفور‏}‏ لأوليائي ‏{‏الرحيم‏}‏ بهم‏.‏

‏{‏وأنَّ عذابي هو العذاب الأليم‏}‏ لأعدائي‏.‏

‏{‏ونبئهم عن ضيف إبراهيم‏}‏ يعني‏:‏ الملائكة الذين أتوه في صورة الأضياف‏.‏

‏{‏إذ دخلوا عليه فقالوا سلاماً‏}‏ سلَّموا سلاماً ف ‏{‏قال‏}‏ إبراهيم‏:‏ ‏{‏إنَّا منكم وجلون‏}‏ فَزِعُون‏.‏

‏{‏قالوا‏:‏ لا توجل‏}‏‏:‏ لا تفزع‏.‏ وقوله‏:‏

‏{‏على أن مسَّني الكبر‏}‏ أَيْ‏:‏ على حالة الكبر ‏{‏فبم تبشرون‏}‏ استفهامُ تعجُّبٍ كأنَّه عجب من الولد على كبره‏.‏

‏{‏قالوا بشرناك بالحق‏}‏ بما قضاه الله أن يكون ‏{‏فلا تكن من القانطين‏}‏ الآيسين‏.‏

‏{‏قال‏:‏ ومَنْ يقنط‏}‏ ييئس ‏{‏من رحمة ربِّه إلاَّ الضالون‏}‏ المكذِّبون‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏57- 60‏]‏

‏{‏قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ ‏(‏57‏)‏ قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ ‏(‏58‏)‏ إِلَّا آَلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ ‏(‏59‏)‏ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ ‏(‏60‏)‏‏}‏

‏{‏قال‏:‏ فما خطبكم‏}‏ ما شأنكم وما الذي جئتم له‏؟‏

‏{‏قالوا‏:‏ إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين‏}‏ يعني‏:‏ قوم لوط‏.‏

‏{‏إلاَّ آل لوط‏}‏ أتباعه الذين كانوا على دينه‏.‏ وقوله‏:‏

‏{‏قدَّرنا‏}‏ قضينا ودبَّرنا أنَّها تتخلَّف وتبقى مع مَنْ بقي حتى تهلك‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏62- 73‏]‏

‏{‏قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ ‏(‏62‏)‏ قَالُوا بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ ‏(‏63‏)‏ وَأَتَيْنَاكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ ‏(‏64‏)‏ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ ‏(‏65‏)‏ وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلَاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ ‏(‏66‏)‏ وَجَاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ ‏(‏67‏)‏ قَالَ إِنَّ هَؤُلَاءِ ضَيْفِي فَلَا تَفْضَحُونِ ‏(‏68‏)‏ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ ‏(‏69‏)‏ قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ ‏(‏70‏)‏ قَالَ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ ‏(‏71‏)‏ لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ ‏(‏72‏)‏ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ ‏(‏73‏)‏‏}‏

‏{‏منكرون‏}‏ أَيْ‏:‏ غير معروفين‏.‏

‏{‏قالوا بل جئناك بما كانوا فيه يمترون‏}‏ بالعذاب الذي كانوا يشكُّون في نزوله‏.‏

‏{‏وأتيناك بالحق‏}‏ بالأمر الثَّابت الذي لا شكَّ فيه من عذاب قومك‏.‏

‏{‏فأسر بأهلك‏}‏ مُفسَّرٌ في سورة هود‏.‏ ‏{‏واتبع أدبارهم‏}‏ امش على آثارهم ببناتك وأهلك لئلا يتخلَّف منهم أحدٌ ‏{‏ولا يلتفت منكم أحد‏}‏ لئلا يرى عظيم ما ينزل بهم من العذاب ‏{‏وامضوا حيث تؤمرون‏}‏ حيث يقول لكم جبريل عليه السَّلام‏.‏

‏{‏وقضينا إليه‏}‏ أوحينا إليه وأخبرناه ‏{‏ذلك الأمر‏}‏ الذي أخبرته الملائكة إبراهيم من عذاب قومه وهو ‏{‏أنَّ دابر هؤلاء‏}‏ أَيْ‏:‏ أواخر مَنْ تبقَّى منهم ‏{‏مقطوع‏}‏ مُهلَكٌ ‏{‏مصبحين‏}‏ داخلين في وقت الصُّبح‏.‏ يريد‏:‏ إنَّهم مهلكون هلاك الاستئصال في ذلك الوقت‏.‏

‏{‏وجاء أهل المدينة‏}‏ مدينة قوم لوط، وهي سذوم ‏{‏يستبشرون‏}‏ يفرحون طمعاً منهم في ركوب المعاصي والفاحشة حيث أُخبروا أنَّ في بيت لوطٍ مُرداً حساناً، فقال لهم لوط‏:‏

‏{‏إن هؤلاء ضيفي فلا تفضحون‏}‏ عندهم بقصدكم إيَّاهم، فيعلموا أنَّه ليس لي عندكم قدرٌ‏.‏

‏{‏واتقوا الله ولا تخزون‏}‏ مذكورٌ في سورة هود‏.‏

‏{‏قالوا أَوَلَمْ ننهك عن العالمين‏}‏ عن ضيافتهم؛ لأنَّا نريد منهم الفاحشة، وكانوا يقصدون بفعلهم الغرباء‏.‏

‏{‏قال هؤلاء بناتي إن كنتم فاعلين‏}‏ هذا الشَّأن‏.‏ يعني‏:‏ اللَّذة وقضاء الوطر‏.‏ يقول‏:‏ عليكم بتزوجهنَّ، أراد أن يقي أضيافه ببناته‏.‏

‏{‏لعمرك‏}‏ بحياتك يا محمد ‏{‏إنهم‏}‏ إنَّ قومك ‏{‏لفي سكرتهم يعمهون‏}‏ في ضلالتهم يتمادون‏.‏ وقيل‏:‏ يعني‏:‏ قوم لوط‏.‏

‏{‏فأخذتهم الصيحة‏}‏ صاح بهم جبريل عليه السَّلام صيحةً أهلكتهم ‏{‏مشرقين‏}‏ داخلين في وقت شروق الشَّمس، وذلك أنَّ تمام الهلاك كان مع الإِشراق‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏75- 83‏]‏

‏{‏إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ ‏(‏75‏)‏ وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ ‏(‏76‏)‏ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ ‏(‏77‏)‏ وَإِنْ كَانَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ لَظَالِمِينَ ‏(‏78‏)‏ فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ ‏(‏79‏)‏ وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ ‏(‏80‏)‏ وَآَتَيْنَاهُمْ آَيَاتِنَا فَكَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ ‏(‏81‏)‏ وَكَانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا آَمِنِينَ ‏(‏82‏)‏ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ ‏(‏83‏)‏‏}‏

‏{‏للمتوسمين‏}‏ أَي‏:‏ المُتفرِّسين المُتثبِّتين في النَّظر حتى يعرفوا حقيقة سمة الشَّيء‏.‏

‏{‏وإنها‏}‏ يعني‏:‏ مدينة قوم لوط ‏{‏لبسبيل مقيم‏}‏ على طريق قومك إلى الشَّام، وهو طريقٌ لا يندرس ولا يخفى‏.‏

‏{‏إنَّ في ذلك لآية للمؤمنين‏}‏ لعبرةً للمصدِّقين‏.‏ يعني‏:‏ إنَّ المؤمنين اعتبروا بها‏.‏

‏{‏وإن كان أصحاب الأيكة‏}‏ قوم شعيب، وكانوا أصحاب غياضٍ وأشجار‏.‏

‏{‏فانتقمنا منهم‏}‏ بالعذاب‏.‏ أخذهم الحرُّ أيَّاماً، ثمَّ اضطرم عليهم المكان ناراً فهلكوا‏.‏ ‏{‏وإنَّهما‏}‏ يعني‏:‏ الأيكة ومدينة قوم لوطٍ ‏{‏لبإمامٍ مبين‏}‏ لبطريقٍ واضحٍ‏.‏

‏{‏ولقد كذَّب أصحاب الحجر‏}‏ يعني‏:‏ قوم ثمود، والحِجر اسم واديهم ‏{‏المرسلين‏}‏ يعين‏:‏ صالحاً، وذلك أنَّ مَنْ كذَّب نبيَّاً فقد كذَّب جميع الرُّسل‏.‏

‏{‏وآتيناهم آياتنا‏}‏ يعني‏:‏ ما أظهر لهم من الآيات في النَّاقة‏.‏

‏{‏وكانوا ينحتون من الجبال بيوتاً‏}‏ لطول عمرهم كان لا يبقى معهم السُّقوف، فاتَّخذوا كهوفاً من الجبال بيوتاً ‏{‏آمنين‏}‏ من أن يقع عليهم‏.‏

‏{‏فأخذتهم الصيحة‏}‏ صحية العذاب ‏{‏مصبحين‏}‏ حين دخلوا في وقت الصُّبح‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏84- 88‏]‏

‏{‏فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ‏(‏84‏)‏ وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآَتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ ‏(‏85‏)‏ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ ‏(‏86‏)‏ وَلَقَدْ آَتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآَنَ الْعَظِيمَ ‏(‏87‏)‏ لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ ‏(‏88‏)‏‏}‏

‏{‏فما أغنى عنهم‏}‏ ما دفع العذاب ‏{‏ما كانوا يكسبون‏}‏ من الأموال والأنعام‏.‏

‏{‏وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما إلاَّ بالحق‏}‏ أي‏:‏ للثَّواب والعقاب‏.‏ أُثيب مَنْ آمن بي وصدَّق رسلي، وأعاقب مَنْ كفر بي، والموعد لذلك السَّاعة، وهو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإنَّ الساعة لآتية‏}‏ أَيْ‏:‏ إنَّ القيامة تأتي، فيجازى المشركون بقبيح أعمالهم ‏{‏فاصفح‏}‏ عنهم ‏{‏الصفح الجميل‏}‏ أَيْ‏:‏ أعرض إعراضاً بغير فحشٍ ولا جزعٍ‏.‏

‏{‏إن ربك هو الخلاق العليم‏}‏ بما خلق‏.‏

‏{‏ولقد آتيناك سبعاً من المثاني‏}‏ يعني‏:‏ الفاتحة، وهي سبع آيات، وتثنى في كلِّ صلاةٍ‏.‏ امتنَّ الله على رسوله صلى الله عليه وسلم بهذه السُّورة، كما امتنَّ عليه بجميع القرآن حين قال‏:‏ ‏{‏والقرآن العظيم‏}‏ أي‏:‏ العظيم القدر‏.‏

‏{‏لا تمدنَّ عينيك إلى ما متعنا به‏}‏ نُهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرَّغبة في الدُّنيا، فحظر عليه أن يمدَّ عينيه إليها رغبةً فيها‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏أزواجاً منهم‏}‏ أَيْ‏:‏ أصنافاً من الكفَّار، كالمشركين، واليهود، وغيرهم‏.‏ يقول‏:‏ لا تنظر إلى ما متَّعناهم به في الدُّنيا ‏{‏ولا تحزن عليهم‏}‏ إن لم يؤمنوا ‏{‏واخفض جَناحَكَ للمؤمنين‏}‏ ليِّن جانبك وارفق بهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏89- 95‏]‏

‏{‏وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ ‏(‏89‏)‏ كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ ‏(‏90‏)‏ الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآَنَ عِضِينَ ‏(‏91‏)‏ فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ‏(‏92‏)‏ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏93‏)‏ فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ ‏(‏94‏)‏ إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ ‏(‏95‏)‏‏}‏

‏{‏وقل إني أنا النذير المبين‏}‏ أنذركم عذاب الله سبحانه، وأُبيِّن لكم ما يقرِّبكم إليه‏.‏

‏{‏كما أنزلنا‏}‏ أَيْ‏:‏ عذابنا ‏{‏على المقتسمين‏}‏ وهم الذين اقتسموا طرق مكة يصدُّون الناس عن الإِيمان بمحمدٍ صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله تعالى بهم خزياً، فماتوا شرَّ ميتةٍ‏.‏

‏{‏الذين جعلوا القرآن عضين‏}‏ جزَّؤوه أجزاءً، فقالوا‏:‏ سحرٌ، وقالوا‏:‏ أساطير الأولين، وقالوا‏:‏ مفترى‏.‏

‏{‏فوربك لنسألنهم أجمعين‏}‏‏.‏

‏{‏عما كانوا يعملون‏}‏ أَيْ‏:‏ يفترون من القول في القرآن‏.‏ يريد‏:‏ لنسألنَّهم سؤال توبيخٍ وتقريعٍ‏.‏

‏{‏فاصدع بما تؤمر‏}‏ يقول‏:‏ أَظهرْ ما تؤمر، واجهر بأمرك، ‏{‏وأعرض عن المشركين‏}‏ لا تُبالِ بهم، ولم يزل النبيُّ صلى الله عليه وسلم مستخفياً حتى نزلت هذه الآية‏.‏

‏{‏إنا كفيناك المستهزئين‏}‏ وكانوا خمسة نفرٍ‏:‏ الوليد بن المغيرة، والعاص بن وائل، وعدي بن قيس، والأسود بن المطلب، والأسود بن عبد يغوث، سلَّط الله سبحانه عليهم جبريل عليه السَّلام حتى قتل كلَّ واحدٍ منهم بآفةٍ، وكفى نبيه عليه السَّلام شرَّهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏98- 99‏]‏

‏{‏فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ ‏(‏98‏)‏ وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ ‏(‏99‏)‏‏}‏

‏{‏فسبح بحمد ربك‏}‏ قل‏:‏ سبحان الله وبحمده ‏{‏وكن من الساجدين‏}‏ المصلِّين‏.‏

‏{‏واعبد ربك حتى يأتيك اليقين‏}‏ أَي‏:‏ الموت‏.‏

سورة النحل

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 4‏]‏

‏{‏أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ‏(‏1‏)‏ يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ ‏(‏2‏)‏ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ‏(‏3‏)‏ خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ ‏(‏4‏)‏‏}‏

‏{‏أتى أمر الله‏}‏ أَيْ‏:‏ عذابه لمَنْ أقام على الشِّرك، أَيْ‏:‏ قد قَرُبَ ذلك ‏{‏فلا تستعجلوه‏}‏ فإنَّه نازلٌ بكم لا محالة ‏{‏سبحانه‏}‏ براءةٌ له من السُّوء ‏{‏وتعالى‏}‏ ارتفع بصفاته ‏{‏عما يشركون‏}‏ عن إشراكهم‏.‏

‏{‏ينزل الملائكة‏}‏ يعني‏:‏ جبريل عليه السَّلام وحده ‏{‏بالروح‏}‏ بالوحي ‏{‏من أمره‏}‏ والوَحْيُ من أمر الله سبحانه ‏{‏على مَنْ يشاء من عباده‏}‏ يريد‏:‏ النَّبيِّين الذين يختصُّهم بالرِّسالة ‏{‏أن أنذروا‏}‏ بدلٌ من الرُّوح، أَيْ‏:‏ أعلموا أهل الكفر ‏{‏أنه لا إله إلاَّ أنا‏}‏ مع تخويفهم إنْ لم يقرُّوا ‏{‏فاتقون‏}‏ بالتَّوحيد والطَّاعة، ثمَّ ذكر ما يدلُّ على توحيده، فقال‏:‏

‏{‏خلق السموات‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏.‏

‏{‏خلق الإِنسان من نطفة‏}‏ يعني‏:‏ أُبيَّ بن خلف ‏{‏فإذا هو خصيم‏}‏ مخاصمٌ ‏{‏مبين‏}‏ ظاهرُ الخصومة، وذلك أنَّه خاصم النبيَّ صلى الله عليه وسلم في إنكاره البعث‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏5- 10‏]‏

‏{‏وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ ‏(‏5‏)‏ وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ ‏(‏6‏)‏ وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ ‏(‏7‏)‏ وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ ‏(‏8‏)‏ وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ ‏(‏9‏)‏ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ ‏(‏10‏)‏‏}‏

‏{‏لكم فيها دفء‏}‏ يعني‏:‏ ما تستدفئون به من الأكسية والأبنية من أشعارها وأصوافها وأوبارها ‏{‏ومنافع‏}‏ من النَّسل والدَّرِّ والرُّكوب‏.‏

‏{‏ولكم فيها جمال‏}‏ زينةٌ ‏{‏حين تريحون‏}‏ تردُّونها إلى مَراحها بالعشايا ‏{‏وحين تسرحون‏}‏ تخرجونها إلى المرعى بالغداة‏.‏

‏{‏وتحمل أثقالكم‏}‏ أمتعتكم ‏{‏إلى بلد‏}‏ لو تكلَّفتم بلوغه على غير الإِبل لشقَّ عليكم، والشِّقِّ‏:‏ المشقَّة ‏{‏إنَّ ربكم لرؤوف رحيم‏}‏ حيث منَّ عليكم بهذه المرافق‏.‏ وقوله‏:‏

‏{‏ويخلق ما لا تعلمون‏}‏ لم يُسمِّه، فالله أعلم به‏.‏

‏{‏وعلى الله قصد السبيل‏}‏ أَي‏:‏ الإِسلام والطَّريق المستقيم يُؤدِّي إلى رضا الله تعالى، كقوله‏:‏ ‏{‏هذا صراط عليَّ مستقيم‏}‏ ‏{‏ومنها‏}‏ ومن السَّبيل ‏{‏جائر‏}‏ عادلٌ مائل كاليهوديَّة والنَّصرانية ‏{‏ولو شاء لهداكم‏}‏ أرشدكم ‏{‏أجمعين‏}‏ حتى لا تختلفوا في الدِّين، وقوله‏:‏

‏{‏ومنه شجر‏}‏ يعني‏:‏ ما ينبت بالمطر، وكلُّ ما ينبت على الأرض فهو شجر ‏{‏فيه تسيمون‏}‏ ترعون مواشيكم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏13- 17‏]‏

‏{‏وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ ‏(‏13‏)‏ وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ‏(‏14‏)‏ وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ‏(‏15‏)‏ وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ ‏(‏16‏)‏ أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ ‏(‏17‏)‏‏}‏

‏{‏وما ذرأ لكم‏}‏ أَيْ‏:‏ وسخَّر لكم ما خلق في الأرض ‏{‏مختلفاً ألوانه‏}‏ أَيْ‏:‏ هيئته ومناظره، يعني‏:‏ الدَّوابَّ والأشجار وغيرهما‏.‏

‏{‏وهو الذي سخر البحر‏}‏ ذلَّله للرُّكوب والغوص ‏{‏لتأكلوا منه لحماً طرياً‏}‏ السَّمك والحيتان ‏{‏وتستخرجوا منه حلية تلبسونها‏}‏ الدُّرَّ والجواهرَ ‏{‏وترى الفلك‏}‏ السُّفن ‏{‏مواخر فيه‏}‏ شواقّ للماء تدفعه بِجُؤْجُئِها بصدرها ‏{‏ولتبتغوا من فضله‏}‏ لتركبوه للتِّجارة، فتطلبوا الرِّبح من فضل الله‏.‏

‏{‏وألقى في الأرض رواسي‏}‏ جبالاً ثابتةً ‏{‏أن تميد‏}‏ لئلا تميد، أَيْ‏:‏ لا تتحرَّك ‏{‏بكم وأنهاراً‏}‏ وجعل فيها أنهاراً كالنِّيل والفرات ودجلة ‏{‏وسبلاً‏}‏ وطرقاً إلى كلِّ بلدةٍ ‏{‏لعلكم تهتدون‏}‏ إلى مقاصدكم من البلاد‏.‏ فلا تضلُّوا‏.‏

‏{‏وعلامات‏}‏ يعني الجبال، وهي علاماتُ الطُّرق بالنَّهار ‏{‏وبالنجم‏}‏ يعني‏:‏ جميع النُّجوم ‏{‏هم يهتدون‏}‏ إلى الطُّرق والقِبلة في البرِّ والبحر‏.‏

‏{‏أفمن يخلق‏}‏ يعني‏:‏ ما ذُكر في هذه السُّورة، وهو الله تعالى ‏{‏كمَنْ لا يخلق‏}‏ يعني‏:‏ الأوثان‏.‏ يقول‏:‏ أَهما سواءٌ حتى يسوَّى بينهما في العبادة‏؟‏ ‏{‏أفلا تذكرون‏}‏ أفلا تتَّعظون كما اتَّعظ المؤمنون‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏18‏]‏

‏{‏وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏18‏)‏‏}‏

‏{‏وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها‏}‏ مرَّ تفسيره ‏{‏إنَّ الله لغفور‏}‏ لتقصيركم في شكر نعمه ‏{‏رحيم‏}‏ بكم حيث لم يقطعها عنكم بتقصيركم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏21- 24‏]‏

‏{‏أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ ‏(‏21‏)‏ إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ ‏(‏22‏)‏ لَا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ ‏(‏23‏)‏ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ ‏(‏24‏)‏‏}‏

‏{‏أموات‏}‏ أَيْ‏:‏ هي أمواتٌ لا روح فيها‏.‏ يعني‏:‏ الأصنام ‏{‏غير أحياء‏}‏ تأكيد ‏{‏وما يشعرون أيان يبعثون‏}‏ وذلك أنَّ الله سبحانه يبعث الأصنام لها أرواحٌ، فيتبرَّؤون من عابديهم، وهي في الدُّنيا جماد لا تعلم متى تُبعث، وقوله‏:‏

‏{‏إلهكم‏}‏ ذكر الله سبحانه دلائل وحدانيته، ثمَّ أخبر أنَّه واحد، ثمَّ أتبع هذا إنكار الكفَّار وحدانيَّته بقوله‏:‏ ‏{‏فالذين لا يؤمنون بالآخرة قلوبهم منكرة‏}‏ جاحدةٌ غير عارفة ‏{‏وهم مستكبرون‏}‏ ممتنعون عن قبول الحقِّ‏.‏

‏{‏لا جرم‏}‏ حقاً ‏{‏أنَّ الله يعلم ما يسرون وما يعلنون‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏.‏ أَيْ‏:‏ يُجازيهم بذلك ‏{‏إنه لا يحب المستكبرين‏}‏ لا يمدحهم ولا يُثيبهم‏.‏

‏{‏وإذا قيل لهم ماذا أنزل ربكم قالوا أساطير الأولين‏}‏ الآية نزلت في النَّضر بن الحارث، وذكرنا قصَّته‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏25- 28‏]‏

‏{‏لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ ‏(‏25‏)‏ قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ ‏(‏26‏)‏ ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ ‏(‏27‏)‏ الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ‏(‏28‏)‏‏}‏

‏{‏ليحملوا أوزارهم‏}‏ هذه لام العاقبة؛ لأنَّ قولهم للقرآن‏:‏ أساطير الأولين، أدَّاهم إلى أن حملوا أوزارهم كاملة لم يُكفَّر منها شيء بنكبةٍ أصابتهم في الدُّنيا لكفرهم‏.‏ ‏{‏ومن أوزار الذين يضلونهم‏}‏ لأنَّهم كانوا دعاةَ الضَّلالة، فعليهم مثل أوزار من اتَّبعهم، وقوله‏:‏ ‏{‏بغير علم‏}‏ أَيْ‏:‏ يضلُّونهم جهلاً منهم بما كانوا يكسبون من الإِثم، ثمَّ ذمَّ صنيعهم فقال‏:‏ ‏{‏ألا ساء ما يزرون‏}‏ أَيْ‏:‏ يحملون‏.‏

‏{‏قد مكر الذين من قبلهم‏}‏ وهو نمروذ بنى صرحاً طويلاً، ليصعد منه إلى السَّماء فيقاتل أهلها ‏{‏فأتى الله‏}‏ فأتى أمر الله، وهو الرِّيح وخَلْقُ الزَّلزلة ‏{‏بنيانهم‏}‏ بناءهم ‏{‏من القواعد‏}‏ من أساطين البناء التي يعمده، وذلك أنَّ الزَّلزلة خُلقت فيها حتى تحرَّكت بالبناء فهدمته، وهو قوله‏:‏ ‏{‏فخرَّ عليهم السقف من فوقهم‏}‏ يعني‏:‏ وهم تحته ‏{‏وأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون‏}‏ من حيث ظنُّوا أنَّهم في أمانٍ منه‏.‏

‏{‏ثم يوم القيامة يخزيهم‏}‏ يُذلُّهم ‏{‏ويقول أين شركائي‏}‏ أَي‏:‏ الذين في دعواكم أنَّهم شركائي، أين هم ليدفعوا العذاب عنكم ‏{‏الذين كنتم تشاقون‏}‏ تخالفون المؤمنين ‏{‏فيهم قال الذين أوتوا العلم‏}‏ وهم المؤمنون يقولون حين يرون خزي الكفَّار في القيامة‏:‏ ‏{‏إنَّ الخزي اليوم والسوء‏}‏ عليهم لا علينا‏.‏

‏{‏الذين تتوفاهم الملائكة‏}‏ مرَّ تفسيره في سورة النِّساء‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏فألقوا السلم‏}‏ أَي‏:‏ انقادوا واستسلموا عند الموت، وقالوا‏:‏ ‏{‏ما كنا نعمل من سوء‏}‏ شرك، فقالت الملائكة‏:‏ ‏{‏بلى إنَّ الله عليمٌ بما كنتم تعملون‏}‏ من الشِّرك والتَّكذيب‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏29- 30‏]‏

‏{‏فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ ‏(‏29‏)‏ وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآَخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ ‏(‏30‏)‏‏}‏

‏{‏فادخلوا أبواب جهنم‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏فلبئس مثوى‏}‏ مقام ‏{‏المتكبرين‏}‏ عن التَّوحيد وعبادة الله سبحانه‏.‏

‏{‏وقيل للذين اتقوا ماذا أنزل ربكم‏}‏ هذا كان في أيَّام الموسم، يأتي الرَّجل مكَّة فيسأل المشركين عمَّا أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم‏؟‏ فيقولون‏:‏ أساطير الأولين، ويسأل المؤمنين عن ذلك فيقولون‏:‏ ‏{‏خيراً‏}‏ أَيْ‏:‏ ثواباً لمَنْ آمن بالله، ثمَّ فسَّر ذلك الخير فقال‏:‏ ‏{‏للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة‏}‏ قالوا‏:‏ لا إله إلاَّ الله ثوابٌ مضاعف ‏{‏ولدار الآخرة‏}‏ وهي الجنَّة ‏{‏خير‏}‏ من الدُّنيا وما فيها‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏32- 37‏]‏

‏{‏الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ‏(‏32‏)‏ هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ‏(‏33‏)‏ فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ‏(‏34‏)‏ وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آَبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ ‏(‏35‏)‏ وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ‏(‏36‏)‏ إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ ‏(‏37‏)‏‏}‏

‏{‏الذين تتوفاهم الملائكة طيبين‏}‏ طاهرين من الشِّرك‏.‏

‏{‏هل ينظرون إلاَّ أن تأتيهم الملائكة‏}‏ لقبض أرواحهم ‏{‏أو يأتي أمر ربك‏}‏ بالقتل، والمعنى‏:‏ هل يكون مدَّة إقامتهم على الكفر إلاَّ مقدار حياتهم إلى أن يموتوا أو يُقتلوا ‏{‏كذلك فعل الذين من قبلهم‏}‏ وهو التَّكذيب، يعني‏:‏ كفَّار الأمم الخالية ‏{‏وما ظلمهم الله‏}‏ بتعذيبهم ‏{‏ولكن كانوا أنفسهم يظلمون‏}‏ بإقامتهم على الشِّرك‏.‏

‏{‏فأصابهم‏}‏ هذا مؤخَّر في اللَّفظ، ومعناه التَّقديم، لأنَّ التَّقدير‏:‏ كذلك فعل الذين من قبلهم فأصابهم، الآية، ثمَّ يقول‏:‏ ‏{‏وما ظلمهم الله‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏.‏ ومعنى‏:‏ أصابهم ‏{‏سيئات ما عملوا‏}‏ أَيْ‏:‏ جزاؤها ‏{‏وحاق‏}‏ أحاط ‏{‏بهم ما كانوا به يَسْتهزئون‏}‏ من العذاب‏.‏

‏{‏وقال الذين أشركوا‏}‏ يعني‏:‏ أهل مكَّة‏:‏ ‏{‏لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء‏}‏ أَيْ‏:‏ ما أشركنا، ولكنَّه شاءه لنا ‏{‏ولا حرَّمنا من دونه من شيء‏}‏ أَيْ‏:‏ من السَّائبة والبحيرة، وإنَّما قالوا هذا استهزاءً‏.‏ قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏كذلك فعل الذين من قبلهم‏}‏ أَيْ‏:‏ من تكذيب الرُّسل، وتحريم ما أحلَّ الله ‏{‏فهل على الرسل إلاَّ البلاغ المبين‏}‏ أَيْ‏:‏ ليس عليهم إلاَّ التَّبليغ، وقد بلَّغتَ يا محمَّدُ، وبلَّغوا، فأمَّا الهداية فهي إلى الله سبحانه وتعالى، وقد حقَّق هذا فيما بعد، وهو قوله‏:‏

‏{‏ولقد بعثنا في كلِّ أمة رسولاً‏}‏ كما بعثناك في هؤلاء ‏{‏أن اعبدوا الله‏}‏ بأن اعبدوا الله ‏{‏واجتنبوا الطاغوت‏}‏ الشيطان وكلَّ من يدعو إلى الضلاَّلة ‏{‏فمنهم مَنْ هدى الله‏}‏ أرشده ‏{‏ومنهم مَنْ حقَّت‏}‏ وجبت ‏{‏عليه الضلالة‏}‏ الكفر بالقضاء السابق ‏{‏فسيروا في الأرض‏}‏ معتبرين بآثار الأمم المكذِّبة، ثمَّ أكَّد أنَّ مَنْ حقَّت عليه الضَّلالة لا يهتدي، وهو قوله‏:‏

‏{‏إن تحرص على هداهم‏}‏ أَيْ‏:‏ تطلبها بجهدك ‏{‏فإنَّ الله لا يهدي مَنْ يضل‏}‏ كقوله‏:‏ ‏{‏من يُضللِ اللَّهُ فلا هادي له‏.‏‏}‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏38- 43‏]‏

‏{‏وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏38‏)‏ لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ ‏(‏39‏)‏ إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ‏(‏40‏)‏ وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآَخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ‏(‏41‏)‏ الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ‏(‏42‏)‏ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ‏(‏43‏)‏‏}‏

‏{‏وأقسموا بالله جهد أيمانهم‏}‏ أغلظوا في الأيمان تكذيباً منهم بقدرة الله على البعث، فقال الله تعالى‏:‏ ‏{‏بلى‏}‏ ليبعثنَّهم ‏{‏وعداً عليه حقاً‏}‏‏.‏

‏{‏ليبيِّن لهم‏}‏ بالبعث ما اختلفوا فيه من أمره، وهو أنَّهم ذهبوا إلى خلاف ما ذهب إليه المؤمنون ‏{‏وليعلم الذين كفروا أنهم كانوا كاذبين‏}‏ ثمَّ أعلمهم سهولة خلق الأشياء عليه بقوله‏:‏

‏{‏إنما قولنا لشيء‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏.‏

‏{‏والذين هاجروا‏}‏ نزلت في قومٍ عذَّبهم المشركون بمكَّة إلى أن هاجروا، وقوله‏:‏ ‏{‏في الله‏}‏ أَيْ‏:‏ في رضا الله ‏{‏لنبوئنهم في الدنيا حسنة‏}‏ داراً وبلدةً حسنةً، وهي المدينة ‏{‏ولأجر الآخرة‏}‏ يعني‏:‏ الجنَّة‏.‏

‏{‏الذين صبروا‏}‏ على أذى المشركين وهم في ذلك واثقون بالله تعالى مُتوكِّلون عليه‏.‏

‏{‏وما أرسلنا من قبلك‏}‏ ذكرنا تفسيره في آخر سورة يوسف‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏فاسألوا أهل الذكر‏}‏ يعني‏:‏ أهل التَّوراة فيخبرونكم أنَّ الأنبياء كلَّهم كانوا بشراً‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏44- 48‏]‏

‏{‏بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ‏(‏44‏)‏ أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ ‏(‏45‏)‏ أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ ‏(‏46‏)‏ أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ ‏(‏47‏)‏ أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ ‏(‏48‏)‏‏}‏

‏{‏بالبينات‏}‏ أَيْ‏:‏ أرسلناهم بالبيِّنات بالحجج الواضحة ‏{‏والزبر‏}‏ الكتب ‏{‏وأنزلنا إليك الذكر‏}‏ القرآن ‏{‏لتبين للناس ما نزل إليهم‏}‏ في هذا الكتاب من الحلال والحرام، والوعد والوعيد ‏{‏ولعلهم يتفكرون‏}‏ في ذلك فيعتبرون‏.‏

‏{‏أفأمن الذين مكروا السيئات‏}‏ عملوا بالفساد، يعني‏:‏ عبادة الأوثان، وهم مشركو مكَّة ‏{‏أن يخسف الله بهم الأرض‏}‏ كما خسف بقارون ‏{‏أو يأتيهم العذاب من حيث لا يشعرون‏}‏ أَيْ‏:‏ من حيث يأمنون، فكان كذلك؛ لأنَّهم أُهلكوا يوم بدر، وما كانوا يُقدِّرون في ذلك‏.‏

‏{‏أو يأخذهم في تقلبهم‏}‏ للسَّفر والتِّجارة ‏{‏فما هم بمعجزين‏}‏ بممتنعين على الله‏.‏

‏{‏أو يأخذهم على تخوّف‏}‏ على تنقُّص، وهو أن يأخذ الأوَّل حتى يأتي الأخذ على الجميع ‏{‏فإنَّ ربكم لرؤوف رحيم‏}‏ إذ لم يعجل عليهم بالعقوبة‏.‏

‏{‏أَوَلَمْ يروا إلى ما خلق الله من شيء‏}‏ له ظلٌّ من جبلٍ وشجرٍ وبناءٍ ‏{‏يتفيَّأ‏}‏ يتميَّل ‏{‏ظلاله عن اليمين والشمائل‏}‏ في أوَّل النَّهار عن اليمين، وفي آخره عن الشِّمال إذا كنت مُتوجِّهاً إلى القبلة ‏{‏سجداً لله‏}‏ قال المُفسِّرون‏:‏ ميلانها سجودها، وهذا كقوله‏:‏ ‏{‏وظلالهم بالغدو والآصال‏}‏ وقد مرَّ ‏{‏وهم داخرون‏}‏ صاغرون يفعلون ما يُراد منهم‏:‏ يعني‏:‏ هذه الأشياء التي ذكرها أنَّها تسجد لله‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏49- 50‏]‏

‏{‏وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ ‏(‏49‏)‏ يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ‏(‏50‏)‏‏}‏

‏{‏ولله يسجد‏}‏ أَيْ‏:‏ يخضع وينقاد بالتَّسخير ‏{‏ما في السموات وما في الأرض من دابة‏}‏ يريد‏:‏ كلَّ ما دبَّ على الأرض ‏{‏والملائكة‏}‏ خصَّهم بالذِّكر تفضيلاً ‏{‏وهم لا يستكبرون‏}‏ عن عبادة الله تعالى‏.‏ يعني‏:‏ الملائكة‏.‏

‏{‏يخافون ربهم من فوقهم‏}‏ يعني‏:‏ الملائكة، هم فوق ما في الأرض من دابَّة، ومع ذلك يخافون الله، فلأَنْ يخافَ مَنْ دونهم أولى ‏{‏ويفعلون ما يؤمرون‏}‏ يعني‏:‏ الملائكة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏52- 55‏]‏

‏{‏وَلَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ ‏(‏52‏)‏ وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ ‏(‏53‏)‏ ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ ‏(‏54‏)‏ لِيَكْفُرُوا بِمَا آَتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ‏(‏55‏)‏‏}‏

‏{‏وله الدين واصباً‏}‏ دائماً، أَيْ‏:‏ طاعته واجبةٌ أبداً‏.‏ ‏{‏أفغير الله‏}‏ الذي خلق كلَّ شيء، وأمر أن لا تتَّخذوا معه إلهاً ‏{‏تتقون‏}‏‏.‏

‏{‏وما بكم من نعمة‏}‏ من صحَّة جسمٍ، أو سعةِ رزقٍ، أو إمتاعٍ بمالٍ وولدٍ، فكلُّ ذلك من الله، ‏{‏ثمَّ إذا مسكم الضرُّ‏}‏ الأسقام والحاجة ‏{‏فإليه تجأرون‏}‏ ترفعون أصواتكم بالاستغاثة‏.‏

‏{‏ثمَّ إذا كشف الضر عنكم‏}‏ يعني‏:‏ مَنْ كفر بالله، وأشرك بعد كشف الضُّرَّ عنه‏.‏

‏{‏ليكفروا بما آتيناهم‏}‏ ليجحدوا نعمة الله فيما فعل بهم ‏{‏فتمتعوا‏}‏ أمر تهديد ‏{‏فسوف تعلمون‏}‏ عاقبة أمركم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏56- 61‏]‏

‏{‏وَيَجْعَلُونَ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ ‏(‏56‏)‏ وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ ‏(‏57‏)‏ وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ ‏(‏58‏)‏ يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ ‏(‏59‏)‏ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ‏(‏60‏)‏ وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ ‏(‏61‏)‏‏}‏

‏{‏ويجعلون‏}‏ يعني‏:‏ المشركين ‏{‏لما لا يعلمون‏}‏ أَي‏:‏ الأوثان التي لا علم لها ‏{‏نصيباً مما رزقناهم‏}‏ يعني‏:‏ ما ذُكر في قوله‏:‏ ‏{‏وهذا لشركائنا‏}‏ ‏{‏تالله لتسألنَّ‏}‏ سؤال توبيخٍ ‏{‏عمَّا كنتم تفترون‏}‏ على الله من أنَّه أمركم بذلك‏.‏

‏{‏ويجعلون لله البنات‏}‏ يعني‏:‏ خزاعة وكنانة، زعموا أنَّ الملائكة بنات الله، ثمَّ نزَّه نفسه فقال تعالى‏:‏ ‏{‏سبحانه‏}‏ تنزيهاً له عمَّا زعموا ‏{‏ولهم ما يشتهون‏}‏ يعني‏:‏ البنين، وهذا كقولهم‏:‏ ‏{‏أم له البنات‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏.‏

‏{‏وإذا بشر أحدهم بالأنثى‏}‏ أُخبر بولادة ابنةٍ ‏{‏ظلَّ‏}‏ صار ‏{‏وجهه مسودّاً‏}‏ متغيِّراً تغيُّرَ مغتمٍّ ‏{‏وهو كظيم‏}‏ ممتلئ غمّاً‏.‏

‏{‏يتوارى‏}‏ يختفي ويتغيب مقدّراً مع نفسه ‏{‏أيمسكه على هون‏}‏ أيستحييها على هوانٍ منه لها ‏{‏أم يدسُّه‏}‏ يخفيه ‏{‏في التراب‏}‏ فعل الجاهليَّة من الوأد ‏{‏ألا ساء‏}‏ بئس ‏{‏ما يحكمون‏}‏ أَيْ‏:‏ يجعلون لمن يعترفون بأنَّه خالقهم البناتِ اللاتي محلهنَّ منهم هذا المحل‏:‏ ونسبوه إلى اتِّخاذ الأولاد، وجعلوا لأنفسهم البنين‏.‏

‏{‏للذين لا يؤمنون بالآخرة مثل السوء‏}‏ العذاب والنَّار ‏{‏ولله المثل الأعلى‏}‏ الإِخلاص والتَّوحيد، وهو شهادة أن لا إله إلاَّ الله‏.‏

‏{‏ولو يؤاخذ الله الناس‏}‏ المشركين ‏{‏بظلمهم‏}‏ بافترائهم على الله تعالى ‏{‏ما ترك عليها من دابة‏}‏ يعني‏:‏ أحداً من المشركين ‏{‏ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى‏}‏ وهو انقضاء عمرهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏62- 70‏]‏

‏{‏وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ ‏(‏62‏)‏ تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏(‏63‏)‏ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ‏(‏64‏)‏ وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ ‏(‏65‏)‏ وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ ‏(‏66‏)‏ وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ‏(‏67‏)‏ وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ ‏(‏68‏)‏ ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ‏(‏69‏)‏ وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ ‏(‏70‏)‏‏}‏

‏{‏ويجعلون لله ما يكرهون‏}‏ لأنفسهم، وذلك هو البنات، أَيْ‏:‏ يحكمون له به، ‏{‏وتصف ألسنتهم الكذب‏}‏ ثمَّ فسَّر ذلك الكذب بقوله‏:‏ ‏{‏أنَّ لهم الحسنى‏}‏ أَي‏:‏ الجنَّة والمعنى‏:‏ يصفون أنَّ لهم مع قبح قولهم الجنَّة إن كان البعث حقّاً، فقال الله تعالى‏:‏ ‏{‏لا‏}‏ أَيْ‏:‏ ليس الأمر كما وصفوه ‏{‏جرم‏}‏ كسب قولهم هذا ‏{‏أنَّ لهم النار وأنَّهم مُفرْطون‏}‏ متروكون فيها‏.‏ وقيل‏:‏ مُقدَّمون إليها‏.‏ وقوله‏:‏

‏{‏فهو وليُّهم اليوم‏}‏ يعني‏:‏ يوم القيامة، وأُطلق اسم اليوم عليه لشهرته، وقوله‏:‏

‏{‏لتبين لهم الذي اختلفوا فيه‏}‏ أَيْ‏:‏ تُبيِّن للمشركين ما ذهبوا فيه إلى خلاف ما يذهب إليه المسلمون، فتقوم الحجَّة عليهم ببيانك‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وهدى‏}‏ أَيْ‏:‏ والهداية والرَّحمة للمؤمنين‏.‏ وقوله‏:‏

‏{‏والله أنزل‏}‏ ظاهرٌ إلى قوله‏:‏ ‏{‏يسمعون‏}‏ أَيْ‏:‏ سماع اعتبار‏.‏ يريد‏:‏ إنَّ في ذلك دلالة على البعث‏.‏

‏{‏وإنَّ لكم في الأنعام لعبرة‏}‏ لدلالةً على قدرة الله تعالى ووحدانيَّته ‏{‏نسقيكم مما في بطونه من بين فرث‏}‏ وهو سرجين الكرش ‏{‏ودمٍ لبناً خالصاً سائغاً للشاربين‏}‏ جائزاً في حلوقهم‏.‏

‏{‏ومن ثمرات‏}‏ أَيْ‏:‏ ولكم منها ما ‏{‏تتخذون منه سكراً‏}‏ وهو الخمر‏.‏ نزل هذا قبل تحريم الخمر ‏{‏ورزقاً حسناً‏}‏ وهو الخلُّ والزَّبيب والتَّمرُ ‏{‏إنَّ في ذلك لآية لقومٍ يعقلون‏}‏ يريد‏:‏ عقلوا عن الله تعالى ما فيه قدرته‏.‏

‏{‏وأوحى ربك إلى النخل‏}‏ ألهمها وقذف في أنفسها ‏{‏أن اتخذي من الجبال بيوتاً ومن الشجر‏}‏ هي تتَّخذ لأنفسها بيوتاً إذا كانت لا أصحاب لها، فإذا كانت لها أرباب اتِّخذت بيوتها ممَّا تبني لها أربابها، وهو قوله‏:‏ ‏{‏ومما يعرشون‏}‏ أَيْ‏:‏ يبنون ويسقفون لها من الخلايا‏.‏

‏{‏ثمَّ كلي من كلِّ الثمرات فاسلكي سبل ربك‏}‏ طرق ربِّك تطلب فيها الرَّعي ‏{‏ذللاً‏}‏ منقادة مُسخَّرة مطيعة ‏{‏يخرج من بطونها شراب‏}‏ وهو العسل ‏{‏مختلف ألوانه‏}‏ منه أحمر وأبيض وأصفر ‏{‏فيه‏}‏ في ذلك الشَّراب ‏{‏شفاء للناس‏}‏ من الأوجاع التي شفاؤها فيه‏.‏

‏{‏والله خلقكم‏}‏ ولم تكونوا شيئاً ‏{‏ثمَّ يتوفاكم‏}‏ عند انقضاء آجالكم ‏{‏ومنكم مَنْ يردُّ إلى أرذل العمر‏}‏ وهو أردؤه، يعني‏:‏ الهرم ‏{‏لكيلا يعلم بعد علم شيئاً‏}‏ يصير كالصبيِّ الذي لا عقل له‏.‏ قالوا‏:‏ وهذا لا يكون للمؤمنين؛ لأنَّ المؤمن لا ينزع عنه علمه وإن كبر ‏{‏إنّ الله عليم‏}‏ بما يصنع ‏{‏قدير‏}‏ على ما يريد‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏71- 75‏]‏

‏{‏وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ ‏(‏71‏)‏ وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ ‏(‏72‏)‏ وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ شَيْئًا وَلَا يَسْتَطِيعُونَ ‏(‏73‏)‏ فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ‏(‏74‏)‏ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏75‏)‏‏}‏

‏{‏والله فضَّل بعضكم على بعض في الرزق‏}‏ حيث جعل بعضكم يملك العبيد، وبعضكم مملوكاً ‏{‏فما الذين فضلوا‏}‏ وهم المالكون ‏{‏برادي رزقهم‏}‏ بجاعلي رزقهم لعبيدهم، حتى يكونوا عبيدهم معهم ‏{‏فيه سواء‏}‏ وهذا مَثَلٌ ضربه الله تعالى للمشركين في تصييرهم عباد الله شركاء له، فقال‏:‏ إذا لم يكن عبيدكم معكم سواء في الملك، فكيف تجعلون عبيدي معي سواء‏؟‏ ‏{‏أفبنعمة الله يجحدون‏}‏ حيث يتَّخذون معه شركاء‏.‏

‏{‏والله جعل لكم من أنفسكم أزواجاً‏}‏ يعني‏:‏ النِّساء ‏{‏وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة‏}‏ يعني‏:‏ ولد الولد ‏{‏ورزقكم من الطيبات‏}‏ من أنواع الثِّمار والحبوب والحيوان ‏{‏أفبالباطل يؤمنون‏}‏ يعني‏:‏ الأصنام، ‏{‏وبنعمة الله هم يكفرون‏}‏ يعني‏:‏ التَّوحيد‏.‏

‏{‏ويعبدون من دون الله ما لا يملك لهم رزقاً من السموات‏}‏ يعني‏:‏ الغيث الذين يأتي من جهتها ‏{‏والأرض‏}‏ يعني‏:‏ النَّبات والثِّمار ‏{‏شيئاً‏}‏ أَيْ‏:‏ قليلاً ولا كثيراً ‏{‏ولا يستطيعون‏}‏ لا يقدرون على شيء‏.‏

‏{‏فلا تضربوا لله الأمثال‏}‏ لا تشبِّهوه بخلقه، وذلك أنَّ ضرب المثل إنَّما هو تشبيه ذاتٍ بذاتٍ، أو وصفٍ بوصفٍ، والله تعالى منزَّه عن ذلك ‏{‏إنَّ الله يعلم‏}‏ ما يكون قبل أن يكون ‏{‏وأنتم لا تعلمون‏}‏ قدر عظمته حيث أشركتم به‏.‏

‏{‏ضرب الله مثلاً‏}‏ بيَّن شبهاً فيه بيانٌ للمقصود، ثمَّ ذكر ذلك فقال‏:‏ ‏{‏عبداً مملوكاً لا يقدر على شيء‏}‏ لأنَّه عاجرٌ مملوكٌ لا يملك شيئاً، وهذا مثَلٌ ضربه الله لنفسه ولمَنْ عُبِدَ دونه‏.‏ يقول‏:‏ العاجز الذي لا يقدر أن ينفق، والمالك المقتدر على الإِنفاق لا يستويان، فكيف يُسوَّى بين الحجارة التي لا تتحرَّك، وبين الله الذي هو على كلِّ شيء قدير، وهو رازقُ جميع خلقه، ثمَّ بيَّن أنَّه المستحقُّ للحمد دون ما يعبدون من دونه فقال‏:‏ ‏{‏الحمد لله‏}‏ لأنَّه المنعم ‏{‏بل أكثرهم لا يعلمون‏}‏ يقول‏:‏ هؤلاء المشركون لا يعلمون أنَّ الحمد لي؛ لأنَّ جميع النِّعم مني، والمراد بالأكثر ها هنا الجميع، ثمَّ ضرب مثلاً للمؤمن والكافر‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏76- 82‏]‏

‏{‏وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَم لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ‏(‏76‏)‏ وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ‏(‏77‏)‏ وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ‏(‏78‏)‏ أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ‏(‏79‏)‏ وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ ‏(‏80‏)‏ وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلَالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ ‏(‏81‏)‏ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ الْمُبِينُ ‏(‏82‏)‏‏}‏

‏{‏وضرب الله مثلاً رجلين أحدهما أبكم لا يقدر على شيء‏}‏ من الكلام، لأنَّه لا يَفْهم ولا يُفهم عنه ‏{‏وهو كَلٌّ‏}‏ ثِقْلٌ ووبالٌ ‏{‏على مولاه‏}‏ صاحبه وقريبه ‏{‏أينما يوجهه‏}‏ يرسله ‏{‏لا يأت بخير‏}‏ لأنَّه عاجزٌ لا يَفهم ما يقال له، ولا يُفهم عنه ‏{‏هل يستوي هو‏}‏ أَيْ‏:‏ هذا الأبكم ‏{‏ومَنْ يأمر بالعدل‏}‏ وهو المؤمن يأمر بتوحيد الله سبحانه ‏{‏وهو على صراط مستقيم‏}‏ دينٍ مستقيمٍ، يعني‏:‏ بالأبكم أُبيَّ بن خلف، وكان كلاًّ على قومه؛ لأنَّه كان يؤذيهم، ومَن يأمر بالعدل حمزة بن عبد المطلب‏.‏

‏{‏ولله غيب السموات والأرض‏}‏ أَيْ‏:‏ علم ما غاب فيهما عن العباد ‏{‏وما أمر الساعة‏}‏ يعني‏:‏ القيامة ‏{‏إلاَّ كلمح البصر‏}‏ كالنَّظر بسرعةٍ ‏{‏أو هو أقرب‏}‏ من ذلك إذا أردناه، يريد‏:‏ إنه يأتي بها في أسرع من لمح البصر إذا أراده‏.‏ ‏{‏والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئاً‏}‏ أَيْ‏:‏ غير عالمين ‏{‏وجعل لكم السَّمْعَ والأبصار‏}‏ أَيْ‏:‏ خلق لكم الحواسَّ التي بها يعلمون، ويقفون على ما يجهلون‏.‏

‏{‏ألم يروا إلى الطير مسخرات‏}‏ مذلَّلاتٍ ‏{‏في جوِّ السماء‏}‏ يعني‏:‏ الهواء، وذلك يدلُّ على مُسخِّرٍ سخَّرها، ومدبِّرٍ مكَّنها من التَّصرُّف ‏{‏ما يُمسكهنَّ إلاَّ الله‏}‏ في حال القبض والبسط والاصطفاف‏.‏

‏{‏والله جعل لكم من بيوتكم سكناً‏}‏ موضعاً تسكنون فيه، ويستر عوراتكم وحرمكم، وذلك أنَّه خلق الخشب والمدر والآلة التي يمكن بها تسقيف البيوت ‏{‏وجعل لكم من جلود الأنعام‏}‏ يعني‏:‏ الأنطاع والأدم ‏{‏بيوتاً‏}‏ وهي القباب والخيام ‏{‏تستخفونها يوم ظعنكم‏}‏ يخفُّ عليكم حملها في أسفاركم ‏{‏ويوم إقامتكم‏}‏ لا يثقل عليكم في الحالتين ‏{‏ومن أصوافها‏}‏ يعني‏:‏ الضَّأن ‏{‏وأوبارها‏}‏ يعني‏:‏ الإِبل ‏{‏وأشعارها‏}‏، وهي المعز ‏{‏أثاثاً‏}‏ طنافس وأكسية وبُسطاً ‏{‏ومتاعاً‏}‏ تتمتَّعون به ‏{‏إلى حين‏}‏ البلى‏.‏

‏{‏والله جعل لكم مما خلق‏}‏ من البيوت والشَّجر والغمام ‏{‏ظلالاً وجعل لكم من الجبال أكناناً‏}‏ يعني‏:‏ الغِيران والأسراب ‏{‏وجعل لكم سرابيل‏}‏ قمصاً ‏{‏تقيكم الحر‏}‏ تمنعكم الحرَّ والبرد، ‏[‏فترك ذكر البرد‏]‏؛ لأنَّ ما وقى الحرَّ وقى البرد، فهو معلوم ‏{‏وسرابيل‏}‏ يعني‏:‏ دروع الحديد ‏{‏تقيكم‏}‏ تمنعكم ‏{‏بأسكم‏}‏ شدَّة الطَّعْن والضَّرب والرَّمي ‏{‏كذلك‏}‏ مثل ما خلق هذه الأشياء لكم ‏{‏يتمُّ نعمته عليكم‏}‏ يريد‏:‏ نعمة الدُّنيا، والخطاب لأهل مكَّة ‏{‏لعلَّكم تسلمون‏}‏ تنقادون لربوبيته فتوحِّدونه‏.‏

‏{‏فإن تولوا‏}‏ أعرضوا عن الإِيمان بعد البيان ‏{‏فإنما عليك البلاغ المبين‏}‏ وليس عليك من كفرهم وجحودهم شيء‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏83- 87‏]‏

‏{‏يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ ‏(‏83‏)‏ وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا ثُمَّ لَا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ ‏(‏84‏)‏ وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذَابَ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ ‏(‏85‏)‏ وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكَاءَهُمْ قَالُوا رَبَّنَا هَؤُلَاءِ شُرَكَاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ ‏(‏86‏)‏ وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ‏(‏87‏)‏‏}‏

‏{‏يعرفون نعمة الله ثمَّ ينكرونها‏}‏ يعني‏:‏ الكفَّار، يُقرُّون بأنَّها كلَّها من الله تعالى ثمَّ يقولون بشفاعة آلهتنا، فذلك إنكارهم ‏{‏وأكثرهم‏}‏ جميعهم ‏{‏الكافرون‏}‏‏.‏

‏{‏ويوم‏}‏ أَيْ‏:‏ وأنذرهم يوم ‏{‏نبعث‏}‏ وهو يوم القيامة ‏{‏من كلِّ أمة شهيداً‏}‏ يعني‏:‏ الأنبياء عليهم السَّلام يشهدون على الأمم بما فعلوا، ‏{‏ثم لا يؤذن للذين كفروا‏}‏ في الكلام والاعتذار ‏{‏ولا هم يستعتبون‏}‏ ولا يُطلب منهم أن يرجعوا إلى ما يرضي الله تعالى‏.‏

‏{‏وإذا رأى الذين ظلموا‏}‏ أشركوا ‏{‏العذاب‏}‏ النَّار ‏{‏فلا يخفف عنهم‏}‏ العذاب ‏{‏ولا هم ينظرون‏}‏ يمهلون‏.‏

‏{‏وإذا رأى الذي أشركوا شركاءهم‏}‏ أوثانهم التي عبدوها من دون الله ‏{‏قالوا ربنا هؤلاء شركاؤنا‏}‏ وذلك أنَّ الله يبعثها حتى تُوردهم النَّار، فإذا رأوها عرفوها، فقالوا‏:‏ ‏{‏ربنا هؤلاء شركاؤنا الذين كنا ندعوا من دونك فألقوا إليهم القول‏}‏ أَيْ‏:‏ أجابوهم فقالوا لهم‏:‏ ‏{‏إنكم لكاذبون‏}‏ وذلك أنَّها كانت جماداً ما تعرف عبادة عابديها، فيظهر عند ذلك فضيحتهم حيث عبدوا مَن لم يشعر بالعبادة، وهذا كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏سيكفرون بعبادتهم‏}‏ ‏{‏وألقوا إلى الله يومئذ السلم‏}‏ استسلموا لحكم الله تعالى ‏{‏وضلَّ عنهم ما كانوا يفترون‏}‏ بطل ما كانوا يأملون من أنَّ آلهتهم تشفع لهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏89- 92‏]‏

‏{‏وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلَاءِ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ ‏(‏89‏)‏ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ‏(‏90‏)‏ وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ ‏(‏91‏)‏ وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ‏(‏92‏)‏‏}‏

‏{‏ويوم نبعث في كلِّ أمَّة شهيداً‏}‏ وهو يوم القيامة، يبعث الله في كلِّ أُمَّةٍ شهيداً ‏{‏عليهم من أنفسهم‏}‏ وهو نبيُّهم؛ لأنَّ كلَّ نبيٍّ بُعث من قومه، ‏{‏وجئنا بك شهيداً على هؤلاء‏}‏ على قومك، وتمَّ الكلام ها هنا، ثمَّ قال‏:‏ ‏{‏ونزلنا عليك الكتاب تبياناً‏}‏ بياناً ‏{‏لكلِّ شيء‏}‏ ممَّا أُمر به ونُهي عنه‏.‏

‏{‏إنَّ الله يأمر بالعدل‏}‏ شهادة أن لا إله إلاَّ الله ‏{‏والإِحسان‏}‏ وأداء الفرائض، وقيل‏:‏ بالعدل في الأفعال، والإِحسان في الأقوال ‏{‏وإيتاء ذي القربى‏}‏ صلة الرَّحم، فتؤتي ذا قرابتك من فضل ما رزقك الله‏.‏ ‏{‏وينهى عن الفحشاء‏}‏ الزِّنا ‏{‏والمنكر‏}‏ الشِّرك ‏{‏والبغي‏}‏ الاستطالة على النَّاس بالظُّلم ‏{‏يعظكم‏}‏ ينهاكم عن هذا كلِّه، ويأمركم بما أمركم به في هذه الآية ‏{‏لعلكم تذكرون‏}‏ لكي تتَّعظوا‏.‏

‏{‏وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم‏}‏ يعني‏:‏ كلَّ عهدٍ يحسن في الشريعة الوفاء به ‏{‏ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها‏}‏ لا تحنثوا فيها بعد ما وكَّدتموه بالعزم ‏{‏وقد جعلتم الله عليكم كفيلاً‏}‏ بالوفاء حيث حلفتم، والواو للحال‏.‏

‏{‏ولا تكونوا كالتي نقضت‏}‏ أفسدت ‏{‏غزلها‏}‏ وهي امرأة حمقاء كانت تغزل طول يومها، ثمَّ تنقضه وتفسده ‏{‏من بعد قوة‏}‏ الغزل بإمراره وفتله ‏{‏أنكاثاً‏}‏ قطعاً، وتمَّ الكلام ها هنا، ثمَّ قال‏:‏ ‏{‏تتخذون أيمانكم دخلاً بينكم‏}‏ أَيْ‏:‏ غشَّاً وخديعةً ‏{‏أن تكون‏}‏ بأن تكون ‏[‏أو لأن تكون‏]‏ ‏{‏أمة هي أربى من أمة‏}‏ أَيْ‏:‏ قوم أغنى وأعلى من قوم، وذلك أنهم كانوا يحالفون قوماً فيجدون أكثر منهم وأعزَّّ، فينقضون حلف أولئك، ويحالفون هؤلاء الذين هم أعزُّ، فنُهوا عن ذلك‏.‏ ‏{‏إنما يبلوكم الله به‏}‏ أَيْ‏:‏ بما أمر ونهى ‏{‏وليبينن لكم يومَ القيامة ما كنتم فيه تختلفون‏}‏ في الدُّنيا، ثمَّ نهى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين عاهدوه على نصرة الإِسلام عن أيمان الخديعة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏94‏]‏

‏{‏وَلَا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ‏(‏94‏)‏‏}‏

‏{‏ولا تتخذوا أيمانكم دخلاً بينكم فتزلَّ قدمٌ بعد ثبوتها‏}‏ تزلّ عن الإِيمان بعد المعرفة بالله تعالى، وهذا إنَّما يستحقُّ في نقض معاهدة رسول الله صلى الله عليه وسلم على نصرة الدِّين ‏{‏وتذوقوا السوء‏}‏ العذاب ‏{‏بما صَدَدتُم عن سبيل الله‏}‏ وذلك أنَّهم إذا نقضوا العهد لم يدخل غيرهم في الإِسلام، فيصير كأنهم صدُّوا عن سبيل الله وعن دين الله‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏95- 101‏]‏

‏{‏وَلَا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا إِنَّمَا عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ‏(‏95‏)‏ مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏96‏)‏ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏97‏)‏ فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآَنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ‏(‏98‏)‏ إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ‏(‏99‏)‏ إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ ‏(‏100‏)‏ وَإِذَا بَدَّلْنَا آَيَةً مَكَانَ آَيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏101‏)‏‏}‏

‏{‏ولا تشتروا بعهد الله ثمناً قليلاً‏}‏ لا تنقضوا عهودكم تطلبون بنقضها عرضاً من الدُّنيا ‏{‏إنَّ ما عند الله‏}‏ أَيْ‏:‏ ما عند الله من الثَّواب على الوفاء ‏{‏خير لكم إن كنتم تعلمون‏}‏ ذلك‏.‏

‏{‏ما عندكم ينفد‏}‏ يفنى وينقطع، يعني‏:‏ في الدُّنيا ‏{‏وما عند الله‏}‏ من الثَّواب والكرامة ‏{‏باق‏}‏ دائمٌ لا ينقطع ‏{‏ولنجزين الذين صبروا‏}‏ على دينهم وعمَّا نهاهم الله تعالى ‏{‏أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون‏}‏ يعني‏:‏ الطَّاعات، وقوله‏:‏

‏{‏فلنحيينه حياة طيبة‏}‏ قيل هي القناعة، وقيل‏:‏ هي حياة الجنَّة‏.‏

‏{‏فإذا قرأت القرآن‏}‏ أَيْ‏:‏ إذا أردت أن تقرأ القرآن ‏{‏فاستعذ بالله‏}‏ فاسأل الله أن يعيذك ويمنعك ‏{‏من الشَّيطان الرجيم‏}‏‏.‏

‏{‏إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا‏}‏ أَيْ‏:‏ حجَّةٌ في إغوائهم ودعائهم إلى الضَّلالة، والمعنى‏:‏ ليس له عليهم سلطان الإِغواء‏.‏

‏{‏إنما سلطانه على الذين يتولونه‏}‏ يُطيعونه ‏{‏والذين هم به‏}‏ بسببه وطاعته فيما يدعوهم إليه ‏{‏مشركون‏}‏ بالله‏.‏

‏{‏وإذا بدلنا آية‏}‏ أَيْ‏:‏ رفعناها وأنزلنا غيرها لنوعٍ من المصلحة ‏{‏والله أعلم‏}‏ بمصالح العباد في ‏{‏ما ينزَّل‏}‏ من النَّاسخ والمنسوخ ‏{‏قالوا‏}‏ يعني‏:‏ الكفَّار ‏{‏إنما أنت مفترٍ‏}‏ كذَّابٌ تقوله من عندك ‏{‏بل أكثرهم لا يعلمون‏}‏ حقيقةَ القرآن وفائدةَ النَّسخ والتَّبديل‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏102- 103‏]‏

‏{‏قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ ‏(‏102‏)‏ وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ ‏(‏103‏)‏‏}‏

‏{‏قل نزله روح القدس‏}‏ جبريل عليه السَّلام ‏{‏من ربك‏}‏ من كلام ربِّك ‏{‏بالحق‏}‏ بالأمر الحقِّ ‏{‏ليثبت الذين آمنوا‏}‏ بما فيه من الحجج والآيات ‏{‏وهدىً‏}‏ وهو هدىً‏.‏

‏{‏ولقد نعلم أنَّهم يقولون‏:‏ إنما يُعلِّمه‏}‏ القرآنَ ‏{‏بشرٌ‏}‏ يعنون عبداً لبني الحضرمي كان يقرأ الكتب ‏{‏لسان الذي يلحدون إليه‏}‏ لغةُ الذي يميلون القول إليه ويزعمون أنَّه يُعلِّمك ‏{‏أعجميّ‏}‏ لا يُفصح ولا يتكلَّم بالعربية ‏{‏وهذا‏}‏ يعني القرآن ‏{‏لسان‏}‏ لغة ‏{‏عربيّ مبين‏}‏ أفصح ما يكون من العربيَّة وأبينه، ثمَّ أخبر أنَّ الكاذبين هم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏105- 107‏]‏

‏{‏إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ ‏(‏105‏)‏ مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ‏(‏106‏)‏ ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآَخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ‏(‏107‏)‏‏}‏

‏{‏إنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون بآيات الله‏}‏ لأنَّهم يقولون لما لا يقدر عليه إلاَّ الله هذا من قول البشر، ثمَّ سمَّاهم كاذبين بقوله‏:‏ ‏{‏وأولئك هم الكاذبون‏}‏‏.‏

‏{‏مَنْ كفر بالله من بعد إيمانه‏}‏ هذا ابتداء كلام، وخبره في قوله‏:‏ ‏{‏فعليهم غضب من الله‏}‏ ثمَّ استثنى المُكره على الكفر، فقال‏:‏ ‏{‏إلاَّ مَنْ أكره‏}‏ أَيْ‏:‏ على التَّلفظ بكلمة الكفر ‏{‏وقلبه مطمئن بالإِيمان ولكن من شَرَحَ بالكفر صدراً‏}‏ أَيْ‏:‏ فتحه ووسَّعه لقبوله‏.‏

‏{‏ذلك‏}‏ الكفر ‏{‏بأنهم استحبوا الحياة الدنيا‏}‏ اختاروها ‏{‏على الآخرة وأنَّ الله‏}‏ لا يهديهم ولا يريد هدايتهم، ثمَّ وصفهم بأنَّهم مطبوعٌ على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم، وأنَّهم غافلون عمَّا يُراد بهم، ثمَّ حكم عليهم بالخسار‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏109- 114‏]‏

‏{‏لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآَخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرُونَ ‏(‏109‏)‏ ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏110‏)‏ يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ‏(‏111‏)‏ وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آَمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ ‏(‏112‏)‏ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ ‏(‏113‏)‏ فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاشْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ‏(‏114‏)‏‏}‏

‏{‏لا جرم‏}‏ أَيْ‏:‏ حقَّاً ‏{‏أنهم في الآخرة هم الخاسرون‏}‏ المغبونون‏.‏

‏{‏ثمَّ إنَّ ربك للذين هاجروا‏}‏ يعني‏:‏ المُستضعفين الذين كانوا بمكَّة ‏{‏من بعد ما فتنوا‏}‏ أَيْ‏:‏ عُذِّبوا وأُوذوا حتى يلفظوا بما يرضيهم ‏{‏ثمَّ جاهدوا‏}‏ مع النبيِّ صلى الله عليه وسلم ‏{‏وصبروا‏}‏ على الدِّين والجهاد ‏{‏إنَّ ربك من بعدها‏}‏ أَيْ‏:‏ من بعد تلك الفتنة التي أصابتهم ‏{‏لغفور رحيم‏}‏ يغفر لهم ما تلفَّظوا به من الكفر تقيَّة‏.‏

‏{‏يوم تأتي‏}‏ أَيْ‏:‏ اذكر لهم ذلك اليوم وذكِّرهم، وهو يوم القيامة ‏{‏كلُّ نفس‏}‏ كلُّ أحدٍ لا تهمُّه إلاَّ نفسه، فهو مخاصمٌ ومحتجٌ عن نفسه، حتى إنَّ إبراهيم عليه السَّلام ليدلي بالخلَّة ‏{‏وتوفى كلُّ نفس ما عملت‏}‏ أَيْ‏:‏ جزاء ما عملت ‏{‏وهم لا يظلمون‏}‏ لا ينقصون، ثمَّ أنزل الله تعالى في أهل مكَّة وما امتُحنوا به من القحط والجوع قوله تعالى‏:‏

‏{‏وضرب الله مثلاً قرية كانت آمنة‏}‏ ذات أمنٍ لا يُغار على أهلها ‏{‏مطمئنة‏}‏ قارَّةً بأهلها لا يحتاجون إلى الانتقال عنها لخوفٍ أو ضيقٍ ‏{‏يأتيها رزقها رغداً من كلِّ مكان‏}‏ يُجلب إليها من كلِّ بلدٍ، كما قال‏:‏ ‏{‏يُجبى إليه ثمراتُ كلِّ شيء‏}‏ ‏{‏فكفرت بأنعم الله‏}‏ حين كذَّبوا رسوله ‏{‏فأذاقها الله لباس الجوع‏}‏ عذَّبهم الله بالجوع سبع سنين ‏{‏والخوف‏}‏ من سرايا النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم التي كان يبعثهم إليهم فيطوفون بهم ‏{‏بما كانوا يصنعون‏}‏ من تكذيب النبيِّ صلى الله عليه وسلم وإخراجه من مكَّة‏.‏

‏{‏ولقد جاءهم‏}‏ يعني‏:‏ أهل مكَّة ‏{‏رسول منهم‏}‏ من نسبهم، يعرفونه بأصله ونسبه ‏{‏فكذبوه فأخذهم العذاب‏}‏ يعني‏:‏ الجوع‏.‏

‏{‏فكلوا‏}‏ يا معشر المؤمنين ‏{‏مما رزقكم الله‏}‏ من الغنائم، وهذه الآية والتي بعدها سبق تفسيرهما في سورة البقرة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏116- 117‏]‏

‏{‏وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ ‏(‏116‏)‏ مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏(‏117‏)‏‏}‏

‏{‏ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب‏}‏ أَيْ‏:‏ لوصف ألسنتكم الكذب، والمعنى‏:‏ لا تقولوا لأجل الكذب وسببه لا لغيره‏:‏ ‏{‏هذا حلال وهذا حرام‏}‏ يعني‏:‏ ما كانوا يحلُّونه ويُحرِّمونه من الحرث والأنعام ‏{‏لتفتروا على الله الكذب‏}‏ بنسبة ذلك التَّحليل والتَّحريم إليه، ثمَّ أوعد المفترين فقال‏:‏ ‏{‏إنَّ الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون‏}‏‏.‏

‏{‏متاع قليل‏}‏ أَيْ‏:‏ لهم في الدُّنيا متاعٌ قليلٌ، ثم يردُّون إلى عذابٍ أليمٍ‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏118- 120‏]‏

‏{‏وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ‏(‏118‏)‏ ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏119‏)‏ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ‏(‏120‏)‏‏}‏

‏{‏وعلى الذين هادوا حرَّمنا ما قصصنا عليك من قبل‏}‏ يعني‏:‏ في سورة الأنعام‏:‏ ‏{‏وعلى الذين هادوا حرمنا كلَّ ذي ظفر‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏.‏ ‏{‏وما ظلمناهم‏}‏ بتحريم ما حرَّمنا عليهم ‏{‏ولكن كانوا أنفسهم يظلمون‏}‏ بأنواع المعاصي‏.‏

‏{‏ثم إن ربك للذين عملوا السوء بجهالة‏}‏ أَيْ‏:‏ الشِّرك ‏{‏ثم تابوا من بعد ذلك‏}‏ آمنوا وصدَّقوا ‏{‏وأصلحوا‏}‏ قاموا بفرائض الله وانتهوا عن معاصيه ‏{‏إن ربك من بعدها‏}‏ من بعد تلك الجهالة ‏{‏لغفور رحيم‏}‏‏.‏

‏{‏إنَّ إبراهيم كان أمة‏}‏ مؤمناً وحده، والنَّاس كلُّهم كفَّارٌ ‏{‏قانتاً‏}‏ مُطيعاً ‏{‏لله حنيفاً‏}‏ لأنَّه اختتن وقام بمناسك الحجِّ‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏122- 123‏]‏

‏{‏وَآَتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآَخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ ‏(‏122‏)‏ ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ‏(‏123‏)‏‏}‏

‏{‏وآتيناه في الدنيا حسنة‏}‏ يعني‏:‏ الذِّكر والثَّناء الحسن في النَّاس كلِّهم ‏{‏وإنَّه في الآخرة لمن الصالحين‏}‏ هذا ترغيبٌ في الصَّلاح؛ ليصير صاحبه من جملة مَنْ منهم إبراهيم عليه السَّلام مع شرفه‏.‏

‏{‏ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفاً‏}‏ أمر باتِّباعه في مناسك الحجِّ، كما علَّم جبريل عليه السَّلام إبراهيم عليه السَّلام‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏124- 128‏]‏

‏{‏إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ‏(‏124‏)‏ ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ‏(‏125‏)‏ وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ ‏(‏126‏)‏ وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ ‏(‏127‏)‏ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ ‏(‏128‏)‏‏}‏

‏{‏إنما جُعِلَ السبت على الذين اختلفوا فيه‏}‏ وهم اليهود، أمروا أن يتفرَّغوا للعبادة في يوم الجمعة، فقالوا لا نريده، ونريد اليوم الذي فرغ الله سبحانه فيه من الخلق، واختاروا السَّبْتَ، ومعنى اختلفوا فيه، أَيْ‏:‏ على نبيِّهم حيث لم يطيعوه في أخذ الجمعة، فجعل السَّبْتَ عليهم، أَيْ‏:‏ غَلَّظَ وضيَّق الأمر فيه عليهم‏.‏

‏{‏ادع إلى سبيل ربك‏}‏ دين ربِّك ‏{‏بالحكمة‏}‏ بالنُّبوَّة ‏{‏والموعظة الحسنة‏}‏ يعني‏:‏ مواعظ القرآن ‏{‏وجادلهم‏}‏ افتلهم عمَّا هم عليه ‏{‏بالتي هي أحسن‏}‏ بالكلمة اللَّيِّنة، وكان هذا قبل الأمر بالقتال، ‏{‏إن ربك هو أعلم‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏.‏ يقول‏:‏ هو أعلم بالفريقين، فهو يأمرك فيهما بما هو الصَّلاح‏.‏

‏{‏وإن عاقبتم‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏.‏ نزلت حين نظر النبيُّ صلى الله عليه وسلم إلى حمزة وقد مُثِّل به، فقال‏:‏ واللَّهِ لأُمَثِلنَّ بسبعين منهم مكانك، فنزل جبريل عليه السَّلام بهذه الآيات، فصبر النبيُّ صلى الله عليه وسلم وكفَّر عن يمينه، وأمسك عمَّا أراد‏.‏ وقوله سبحانه ‏{‏ولئن صبرتم‏}‏ أَيْ‏:‏ عن المجازاة بالمثلة ‏{‏لهو‏}‏ أَيْ‏:‏ الصَّبر ‏{‏خير للصابرين‏}‏ ثمَّ أمره بالصَّبر عزماً، فقال‏:‏

‏{‏واصبر وما صبرك إلاَّ بالله‏}‏ أَيْ‏:‏ بتوفيقه ومعونته ‏{‏ولا تحزن عليهم‏}‏ على المشركين بإعراضهم عنك ‏{‏ولاتك في ضيق مما يمكرون‏}‏ لا يضيق صدرك من مكرهم‏.‏

‏{‏إنَّ الله مع الذين اتقوا‏}‏ الفواحش والكبائر ‏{‏والذين هم محسنون‏}‏ في العمل بالنَّصرة والمعونة‏.‏